القدس والتكرار وشعب نسي أن يموت

اخترنا لك

الياس خوري:

هناك خوف يرافق الكتابة بشكل عام، اسمه الخوف من التكرار. الكلام يتكرر وهذا قدر الكاتب مع اللغة، لكن على المعاني أن تتجدد، وهنا يقع التحدي.
الكاتب العربي اليوم أمام مأزق التكرار، ليس لنضوب في الخيال، بل لأن الواقع نفسه، كي لا نقول أن التاريخ نفسه يتكرر بشكل مَرَضي في هذه المنطقة من العالم، التي وقعت في مصيدة الأسطورة. فمنذ أن تفتق العقل الصهيوني عن حكاية العودة إلى «أرض الميعاد»، استأنفت الحداثة الأوروبية بصيغتها الصهيونية تاريخاً اسطورياً، أرخى بثقله على المشرق العربي، بحيث صارت الأسطورة مقياساً للحاضر، وتم دفن الحاضر تحت ركام الكلمات المكررة وجرى الاستعانة بكلمات استعيدت من حالة تحجرها الأثرية.
ليس هذا موضوع هذا المقال، أنا لا أوافق على الافتراض الذي يقول بأن كل مصائب العرب اليوم هي نتيجة مباشرة لتأسيس الدولة الصهيونية في فلسطين عام 1948، العكس صحيح أيضاً. فأحد مؤسسي الدولة الصهيونية هو الواقع العربي، الذي عجز بعد الحرب العالمية الأولى عن حمل القضية القومية التي اتخذت شكلاً كاريكاتورياً في الدولة الفيصلية في الشام. ثم سمح العجز العربي في مفصلي 1948 و1967 للمشروع الصهيوني بأن يتأسس ويتمدد ويتنمّر ويتحول إلى تهديد وجودي شامل لفلسطين وشعبها.
التكرار الذي أريد الكتابة عنه ليس الماضي الأسطوري والديني، فهذا الماضي، مهما اتخذ من أسماء وأشكال، سواء كانبعاث عربي أو استبداد عسكري مافيوي أو يقظة إسلامية أو إرهاب أصولي معولم، ليس سوى حجاب للحاضر. فالحاضر يلجأ دائماً الى الماضي من أجل تأويل نفسه، وحين تعجز لغته عن التأويل يسقط في لغة الماضي بشكل كامل، وهذا هو حالنا اليوم في المشرق العربي، حيث تتصدر الأصوليات المحشوة بوطنيات فقدت معناها، وصارت ستاراً لطائفيات همجية، المشهدين اللغوي والسياسي. وهذا ما يجري في إسرائيل أيضاً التي تقوم اللغة الدينية القومية الفاشية بابتلاع لغتها القديمة المنمقة.
التكرار هو هذا المشهد الذي تحول في مشرقنا العربي إلى أجزاء ممزقة لا رابط بينها. المشهد الدموي في سورية يكرر مشهد العراق الوحشي، والمشهدان جعلا من مقدمتهما في الحرب الأهلية اللبنانية مجرد لعبة أطفال. لكن لبنان، عبر جيشه غير الرسمي، أي جيش حزب الله، لا يريد أن يفوته المشهد التكراري المرعب، فاندفعت القوات شبه النظامية إلى سورية كي تشارك في حقل الدم المفتوج على الخراب.
الجسد السوري الممزق، لم يعد يجد أي صدى في المحيط العربي، كي لا نقول أن صداه الوحيد هو في هذه العنصرية الحقيرة ضد اللاجئين السوريين، حيث يستقوي الجسد اللبناني الممزق على جسد أكثر منه ضعفاً، وتستعاد لغة عبادة الجيش كتعويض عن الدور الذي تخلى عنه هذا الجيش لمصلحة الجيش الرديف.
هذا التمزق يجد اليوم تجسيده الكبير في القدس، وفي انتفاضة شعبها. فهذه الانتفاضة، بكل ما تحمله من دلالات سياسية وثقافية، تجد نفسها اليوم معزولة عن المنطقة العربية، كي لا نقول انها تكتشف كيف تحول ما تبقى من النظام العربي إلى متواطئ مع الاحتلال وحليف له في بعض الأحيان.
الفلسطينيات والفلسطينيون وحدهم في المواجهة اليوم، ووحدتهم ليست ناجمة فقط عن غياب العرب، فهذه الوحدة اعتادوا عليها من زمان، من دير ياسين الى شاتيلا وصبرا، بل ناجمة عن حقيقتين جديدتين:
الحقيقة الأولى هي ان تماهي الشعوب العربية مع مأساتهم كان يشكل تعويضاً معنوياً وسياسياً كبيراً عن غياب الأنظمة. هذا التماهي يتلاشى اليوم. ليس لأن الشعوب العربية لم تعد تعتبر فلسطين قضيتها، بل لأن هذه الشعوب هي أيضاً تحت مبضع جلاديها الذين يمزقونها ويدمرون حواضرها بوحشية تفوقت في أحيان كثيرة على وحشية اسرائيل.
والحقيقة الثانية هي ان الشعب الفلسطيني يجد نفسه، للمرة الأولى منذ ستينيات القرن الماضي بلا قيادة. ومثلما سيقت الثورات العربية الى مسلخ الأنظمة الاستبدادية و/أو الى المسلخ الطائفي في غياب قيادة وطنية تقود المواجهة، فإن الشعب الفلسطيني يجد نفسه اليوم بلا قيادة. يقاوم بغريزة البقاء، ويصمد لأنه لا يملك خياراً آخر، ويحمي القدس بالصدور العارية لأنه قرر أن لا يموت.
هذا الشعور بالوحدة الذي يترافق مع إرادة البقاء، يأخذنا إلى واقع يتكرر ويستعاد. كأننا عشية الانتفاضة الثانية التي أُطلق عليها اسم انتفاضة الأقصى، التي خرجت «كتائب شهداء الأقصى» من رحمها، وتكفلت السلطة بالاجهاز النهائي عليها.
هل نحن أمام عتبة الانتفاضة الثالثة؟
الانتفاضة الثانية كانت لها قيادتان: الأولى معلنة جسّدها ياسر عرفات ودفع ثمنها في استشهاده بسُمّ الحصار، والثانية سرية توزعت بين «الشباب» أي تنظيم فتح، والاسلاميين بقيادة حماس. القيادتان العلنية والسرية غائبتان اليوم، «الشباب» في السجون، وحماس ترقص على حبال سلطة وهمية في غزة. أما منظمة التحرير وسلطتها فمعنية بالاستمرار في سلطة لا سلطة لها.
شعب بلا قيادة، ومشرق عربي بلا قوام، هذا هو محرك السياسة الاسرائيلية الغارقة في العنصرية والتوحش. إذ يعتقد نتنياهو ومن معه من داعشيي اليهود الصهاينة، أنه يستطيع اليوم، عبر «تحالفاته» السرية مع بعض الأنظمة العربية، وعلاقاته المتواطئة مع الجيش الروسي في سورية، أن يصل الى مبتغاه، أي أن يقسّم الأقصى تمهيداً للاستيلاء عليه من جهة، وأن يقونن ويشرعن نظام التمييز العنصري في كل فلسطين، من جهة ثانية.
أما الفلسطينيات والفلسطينيون فلا خيار لهم. من قال ان القيادة يجب أن تتشكل قبل الدفاع عن النفس؟ من قال أن غريزة البقاء تحتمل هذا الصلف والعنصرية والوحشية الاسرائيلية؟ من قال أن الفلسطينيين لن يدافعوا عن حياتهم وكرامتهم؟
من المرجح ان انتفاضة القدس الحالية هي بداية وعي جديد، صحيح انه وعي مأسوي، وعي من يكتشف عزلته وسط هذا الازدحام الدموي العربي، ووسط زمن العبث الأخلاقي في عالم اليوم، وصحيح أن الفلسطينيين يكررون انتفاضاتهم التي لم تتوقف منذ عام 1936، لكن ماذا يفعلون في مواجهة مأساة لا تتوقف عن التكرار، وأمام عالم عربي لم يصل في انحداره إلى كعب الانحدار، كأن الانحدار لا قعر له.
التكرار هنا ليس عبثاً بل هو عين الحياة. أما الذين يخشون من كلماتنا التي تتكرر فعليهم أن يساهموا في وقف هذا التكرار الانحداري، فمن يريد إصلاح اللغة عليه أن يغيّر العالم أيضاً.
المشكلة أيها الناس تكمن في الحياة وليس في الفلسطينيين، فالفلسطينيون كغيرهم من الخلق مستعدون لليأس، لكنهم ليسوا مستعدين لرفض قوة الحياة فيهم. «ونسيت مثلك أن أموت» كتب درويش في قصيدته عن القدس مخاطباً جندية إسرائيلية ادعت انها قتلته.
شعب نسي أن يموت، هذه هي الحكاية التي تتكرر منذ سبعين سنة.

القدس العربي

الخبر اليمني/أقلام

أحدث العناوين

قائد أنصار الله: آل سعود يزيحون الآيات القرآنية والأحاديث التي تغضب “إسرائيل” من المناهج

قال قائد حركة أنصار الله، عبد الملك الحوثي، السبت، إن السعودية الإمارات قامتا بتعديل مناهجهما الدراسية بطريقة تقدم فيها...

مقالات ذات صلة