تحول العسيري لظل ولي العهد السعودي في عدد من الملفات الإقليمية؛ حتى بات رقمًا مؤثرًا في معادلة الحُكم داخل المملكة؛ قبل أن يرد اسمه باعتباره أحد المحتمل التضحية بهم كباش فداء لحادثة مقتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول لحماية ولي العهد.

رجل ولي العهد الأول في الملف الأمني: أطاح بأبناء عمومته من أجله

في عام 2015، أطل على الشاشات الإخبارية السعودية وجهًا سعوديًا عسكريًا جديدًا عرفته وسائل الإعلام بأنه العميد أحمد العسيري المتحدث باسم التحالف العسكري الذي شكله ولي العهد السعودي للانخراط في حرب اليمن، والذي عرفت عمليته آنذاك باسم عاصفة الحزم. أطل «العسيري»على وسائل الإعلام يوميًا، تتنوع لكناته بين العربية والإنجليزية والفرنسية، يتحدَّث بلغة الأرقام، ويثق في جيش بلاده تحت راية وزير دفاعه «الشاب المخلص النشيط».

الظهور المتكرر والصلاحيات الممنوحة له بالتحدث في كُل الملفات العسكرية والشؤون الأمنية بهذه الأريحية كانت محط تساؤل كبير خصوصًا مع تاريخه المتواضع في المناصب التي خدم فيها، وكونه ليس فردًا من «آل سعود».

أجاد العسيري تسويق نفسه لوزير الدفاع السعودي باعتباره رجلًا عسكريًّا، يجيد التحدث باللغات الأجنبية، خريج مدرسة سان سير للتعليم العالي العسكري في فرنسا، فضلًا عن نيله دورات عسكرية تدريبية وشهادات من معاهد وكليات أخرى شهيرة مثل سانت هيرس البريطانية وويست بوينت الأمريكية، والأهم من كُل ذلك أنه لم يكن يومًا محسوبًا على جناح وزير الداخلية الأسبق محمد بن نايف.

لم يصعد العسيري لمنصب الرجل الأول في المؤسسة الأمنية طيلة سنوات خدمته؛ فقد احتفظ دومًا بمناصب في المرتبة الوسطى قائدًا لطابور العرض العسكري في عام 2002، أو ضابطًا في السرب السادس من القوات الجوية الملكية السعودية، وكان أكبر منصب تولاه هو مدير مكتب الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود .

كفلت هذه العلاقة للعسيري، المُنحدر لأسرة متوسطة من محافظة محايل عسير، تجاوز العقبات أمام الترقى لكُبرى المناصب الأمنية؛ لتبدأ رحلة تصعيده واستخدامه من جانب «ابن سلمان» لينجح في لتقليص صلاحيات غريمه اللدود ومنافسه على عرش المملكة محمد بن نايف فيما يتعلق بملف الأمن الداخلي والاستخبارات في مقابل تصعيد العسيري.

هذا التسويق امتدّ لترقيته مؤخرًا لمنصب الرجل الثاني في جهاز المخابرات العامة (جهاز المخابرات الخارجي للبلاد)، ضمن مساعي ابن سلمان لإحكام السيطرة على ملفّي الاستخبارات والأمن المركزي. لم تتوقف مساعي ابن سلمان لإفساح ملف الشئون الأمنية للعسيري عند إقالة بن نايف، بل امتدت لتشمل كل القيادات المحسوبة عليه كسعد الجابر الذي انتقل إلى وزارة الداخلية ليعمل مديرًا لإدارة شؤون الضباط والأفراد ومستشارًا أمنيًّا لمحمد بن نايف، ومُلازمه في رحلاته لواشنطن.

كما منح العسيري صلاحيات واسعة من خلال استصدار قرار وزاري يلزم كل إدارات وزارة الدفاع بالعودة إلى مكتب وزير الدفاع الذي كان يديره آنذاك العسيري لكافة شؤون الوزارة، على أن يقرِّر مكتب الوزير «ما يجب أن يراه ويطلع عليه نائب الوزير».

ومنح هذا القرار سلطات واسعة لولي العهد السعودي والعسيري للإطاحة بخالد بن سلطان وتقليص صلاحياته، وهو الابن الأكبر للأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، الذي تدرّج في المناصب داخل وزارة الدفاع السعودية، بعد تخرجه في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية ليصير نائبًا للوزير، وأحد المخولين بإتمام صفقات السلاح مع الولايات المتحدة الأمريكية، حتى أُطيح به من منصبه.

بدأت أولى محاولات التحرُّش بصلاحيات خالد بن سلطان، وهو الأمر الذي استخدمه الملك سلمان آنذاك لسحب كافة صلاحيات خالد سواء في التعيينات أم في تحركات الجيش أو في الصفقات العسكرية، تمهيدًا لتصعيد نجله الذي صعد بعد ذلك ليرأسها خلال ولاية والده.

مُهندس حرب اليمن وقائد فرقة «النمور» لحراسة ولي العهد

تصعيد أحمد العسيري مستشارًا أمنيًّا للرجل الأكثر تأثيرًا في المملكة، والمسؤول الأول عن جهاز الاستخبارات السعودي أتاح له تنفيذ أدوار ومهام بات فيها هو الرجل الأول الذي يُهندس هذه المواقف العسكرية.

كان على رأس هذه المواقف حرب اليمن التي أنفقت فيها المملكة مليارات الدولارات دون جدوى عسكرية أو قدرة على تحقيق مكتسبات سياسية في الداخل اليمني فضلًا عن تورط المملكة في جرائم عديدة أدت لربط المنظمات الدولية بين ما يجري في اليمن من مآس والدور السعودي فيها.

صمد العسيري مع ولي العهد السعودي أمام الانتقادات الدولية بعد فشل الحرب التي خاضها؛ ليتنقل بين البرلمانات الدولية مُدافعًا عن صورة المملكة، ومبررًا دوافع الرياض للحرب في اليمن. كانت إحدى هذه الجولات في أبريل (نيسان) عام 2017 حين زار مقر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في العاصمة البريطانية ليقابله خلال دخوله من الباب الرئيسي تجمعات احتجاجية من مجموعة من الناشطين رددوا:«أنت قيد الاعتقال لارتكابك جرائم حرب في اليمن» ورموه بالبيض، كما ارتفعت الهتافات المعادية للنظام السعودي، التي اتهمته بقتل الأطفال في اليمن.

لم يصمد العسيري الذي بات ينظر لنفسه باعتباره مستشارًا لحاكم المملكة القادم أمام هذه الانتقادات؛ ليرد عليهم برفع إصبعه الوسطى غير عابئ بالكاميرات التي التقطت صورته، وكذلك خبرته المحدودة في التعامل مع مثل هذه المواقف.

على مدار العامين الأخيرين؛ لم تنعقد جلسة لمناقشة الوضع في اليمن بين ولي العهد السعودي والمسؤولين اليمنيين داخل أو خارج الرياض سوى بحضور العسيري في دلالة على أهمية دوره في حرب اليمن.

مهمة أخرى أوكلت للعسيري وهي إنشاء «فرقة نمور» من أجل تنفيذ عمليات خاصة سرية تجاه معارضين سعوديين سواء في الداخل أو الخارج، وذلك تمهيدًا لولاية ولي العهد السعودي دون معارضة لسياسته. الربط بين العسيري وهذه المُهمة التي يُرجح أن تكون أولى عملياتها كانت استهداف الكاتب السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بتركيا، وفقًا لما هو مذكور في صحيفة «واشنطن بوست»، يجعل مسألة الزج باسم «العسيري» بوصفه مُتهمًا في حادثة مقتل خاشقجي من جانب ولي العهد السعودي أمرًا محتملًا واستخدامه كبش فداء للأمير الشاب.

نصائح ولي العهد للعسيري: «خلك طبيعي.. كُن أنت»

«خلك طبيعي، كُن أنت» كانت هذه نصيحة «ابن سلمان» للعسيري بعد صدور قرار من جانبه بتعيينه متحدثًا باسم عاصفة الحزم، وهي النصيحة التي فسّرها العسيري في مقابلة تلفزيونية: «وهذا بالنسبة لي دليل عندي على معرفة سمو الأمير بي جيدًا». تفسيرٌ يعطي انطباعًا عن ثقة مُتبادلة بين الجانبين، وعلاقة سبقت صدور هذا القرار الذي أعاد العسيري إلى دوائر الحكم.

لا يكف العسيري عن استدعاء سيرة ولي العهد في أحاديثه سواء في مقابلات مع وسائل إعلام أجنبية أو لقنوات وصحف محلية؛ في إشارة إلى العلاقة الخاصة التي تجمعهما سويًا، والثقة المتبادلة التي نشأت بينهما؛ ما جعل العسيري الرجل الذي يمنحه ولي العهد كُل هذه الصلاحيات متجاوزًا بها مسؤوليه السابقين.

ويبدو أن هذا المدح والثقة المتبادلة بينهما دفعت ولي العهد السعودي لاستخدام اللوبي الإماراتي السعودي في الولايات المتحدة الذي يديره إليوت برويدي (أحد العاملين في حملة ترامب) وجورج نادر (اللبناني الأصل المرتبط بالإمارات) لتسويق العسيري وسط دوائر واشنطن المؤثرة حتى أنه سجل ضمن نجاحاته في إيميل مُسرب أنه جعل رويس رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب يمتدح الجنرال السعودي أحمد حسن محمد العسيري داخل الكونجرس.

فهل سيكتب ولي العهد السعودي بنفسه كلمات النهاية المدوية لرحلة الصعود الصاروخية التي كتبها هو نفسه للعسيري تحت ضغط قانون الضرورة؟ هذا ما ستكشفه الأيام القليلة القادمة.