قصة قصيرة:
*لا أستذكرُ في أيِّ مرحلةٍ تعرفتُ عليه ، وبالرغم من ذلك ، مازلتُ أستذكرُ أشياء كثيرة عنه نعم . فقد كان مُنشدًا بارعًا ذا صوتٍ شجي أثنى عليه معلمو الفنون في مدرستي ، وشاطروه شيئـًا من الإعجاب والذهول .
أما جملته الخاشعة التي كان يُرنِمها بتباكٍ في فترات الفسحة ” لو أنني آلهة السعادةِ لصادقتُ كلَّ تريح أصادفه ” هي ما لن أنساه عنه ما حييت . ولأنَّ الصدفةَ ترتيبٌ مبهمٌ يلتبسُ بأمورٍ كثيرة ، كالدهشةِ والغموض ، فقد دُهشتُ كثيرًا للقائهِ بعد أعوامٍ مديدةٍ فقدتُ خلالها شيئـًا من تجارب طفل حرون ماانفك مجربًا ، ولشدّ ما كان اللقاء غامضًا ومؤلمًا بالنسبةِ إليَّ .
البارحة فقط . نهضتُ من طاولةِ المقهى مُبكرًا ، وسرتُ مستاءً بمحاذاةِ شارع كئيبٍ ينسابُ صوب محطةِ الباص القديمة ، دونما رغبة في المشي أو الربوض ، دونما رغبة في الصَّمتِ أو الصُّراخ . كلُّ ما كنتُ أفعله هو التدحرج بلا إرادةٍ تمامًا كإطارِ مركبةٍ تقاذفته صغيرًا . واصلتُ السَّيرَ كجثةٍ قُدِّرَ لها السَّيرُ ، حتى طِلتُ محطةَ الباصِ القديمة . مساحة شاسعة تنضحُ بالمركبات ، وأبواق السائقين ، وروائح التحلل . ومن على دكةٍ مرصوفةٍ تتوسط الساحة ، انكفأ شاب ضئيل ، كلّ الضآلة ، يُحدِّث نفسه بصوتٍ شبه مسموع، ويُدندنُ لنحنـًا غريبًا ، وفي صوته علائم التَّبلدِ ، علائم الضياع .
كنتُ وقتئذ قد جاورته . توقفت عن المشي ، وطفقتُ مدهوشـًا أراقب حركاتهِ القلقة ، يفغرُ الأرضَ بسبابتهِ ، يُقحمُ كفه في صدرهِ كما تفعلُ العجائز متى أردن كنز المال بين أثدائهن . ولمَ يفعلُ ذلك ؟ لنزع الصوف ، يبصقُ في راحتهِ ثمَّ يتأمل ويقهقه للنتيجةِ ، يقضم أصابعه بكلِّ ماله من قوةٍ وارتباك ! بدا مظهر الشَّاب غريبًا ومفزعًا ، سالفاه الأشعثان مخضران بفعل عصارة لزجة تتسرب عن فيه . صوتٌ أبح متردد كثغاء الجدي ، خصلات الشعر ملبدة بمادةٍ شمعية مقززة ، السخام يملأ وجهه والناصية ، كما يفعل الجُندُ للتمويه ، تبًا أيكون هو حقـًا ؟! في البدء حدجته بنظرات ذاهلة ولوحته كفي ،ومتى تأكدتُ من شخصهِ تجاسرت لسؤاله وسألت:
– هل عرفتني أيها الصاح ؟
ظلَّ صامتًا . أقحم كفّهُ في فمه بطريقة مؤثرة ، نظرَ إليَّ بترددٍ كأنما رأى وهمًا . ثمّ عاد للحنهِ وعيناه الناعستان الرحيمتان تطرفان قدمي بشيءٍ من الاستياء والضيق .صعدتُ متنَ الحافلةِ ، وجلست على الكرسي في صفها الأخير ، جعلتُ أطالعُ الشَّاب آمِلاً إيجاد وجه للشبه بينه وبين مراهق وسيم قد كان يُنشدُ ألحان النشيد الوطني ، وما شاء من شعر النعمان* في صباحاتنا المدرسية وحتمًا لم أجد لذلك سبيلا ً .
تبًا ، إنه هو حقـًا ! ما الذي حدث لقلبك أيها الصاح ؟ هل اتكأت الحياة أنفاسك ؟ أين هي أغنيتك؟ أين هو شدوك الحقّ ؟ تبًا هو أنت !
نعم سادتي ، كنا صديقين ، مراهقين كنا ، أودع الفقرُ قلبينا قسطًـًا من عناء مؤسف ، نتعلمُ في مدرسةٍ واحدة ، واحدةٍ أجهلتنا الكثير، واحدةٍ جلّ طلابها من طبقة اجتماعية فارهة ؛ فلم نجد لنفسينا عزاءً سِوى تلك الآداب القادمة من بلاد الثـلج . نعم قد كان جوركي وتولستوي رفيقين لنا في المدرسة . وكأيِّ مراهقين كنا ، نحلمُ بأشياء كثيرة ، ونيأسُ من حدوث أخرى . أحلامٌ كبيرة متعاظمة كأحلام الفقراء . الفقراءُ فريسة اليأس المُثلى ، أحلام كثيرة متطاولة والدَّرب واحدٌ تنتصفه هوّة غائرة . طالت فترةُ جلوسي في مؤخرةِ الحافلة ، كنت أتأمل الشّاب و أحدس أفكاره بصمت . أما هو فظلَّ على حاله ، يفغر الأرض بخنصره ، يفتل شاربه الزّاغب، يغني . وعلى حين غرة ، ومن مقدمة الحافلة ، نزلَ صوت السائق كالصاعقة على مسامع الشّاب المرتبك ” أنت ، أنت ، يا ابن المُرمِلة**، اجمع الركاب ، أنتَ يا ملعون ، اجمع الرُّكاب ،مجنون ابن مجنون ”
رفع الشّاب رأسه ببطء ، كان مترددًا في النظر إلى الأشياء من حوله ، كأنما شاء غيابها . نظر إلى السائق الأرعن بعينين ناقمتين باكيتين ، ثمَّ طفق يُصارخُ القادمين من الخلف . كان أحد الرجال قد وثب عن كرسيه وبصق في الأرض كتعبير عن امتعاضه من فعل السائق ، ومتى هممتُ أنا بالنزول ، تقدم إليَّ الشاب سائلا ً أجرة الطريق ” أنت الحساب إن تكرمت ” لا أعلم لمَ تخامرني شعورٌ بالارتياح متى مددت يدي ناقدًا كفه الأجرة . ربما لأني لم أعتقد قبلا ً بقدرته على النهوض والاستيعاب ! أو ربما لأني قطعت موقفا من حاله الرث . لا يهم .. ، ما يهم أنني اقتنصت الفرصة لتكرار سؤالي :
– هل عرفتني أيها الصاح ؟
كان الرَّدُ قاسيًا بعض الشيء ، لكنه صادق . قال وهو يلاحظ وجهي ببصره الزائغ :
– وإن عرفتكَ ما الجديد ؟
ما الجديد ؟! ما الجديد ؟!! لا جديد يا صديقي ، لا جديد ، لا جديد سِوى صوتك المبحوح ووجهك المحزون ،لا جديد سِوى شخصك المهزوز وحالك الرث ، لا جديد سِوى أمانيك الضائعة ! ثم لم يلبث أن عاودَ صراخه بصوت فحيح يبعث في النفس الرهبة والحزن في آن .
أثار صوت الشّاب غروي ، جعلت أطالعه بتمعن وحرص . ما من شكٍ في شخصه . لكن ، ما بصوته ؟ ما الذي حدث له ؟ هل فقدَ الدُّوري أغنيته ؟ صوت كهذا لا تنطق به حنجرة بشرية . وحدها الوحوش قادرة على ذلك ! ذهبَ صوت الشّاب بعقلي بعيدًا . صوب الذاكرة . فشردت ، وقد وسدت رأسي عمود النافذة ، أستذكر أشياء كثيرة عنه . ففي المدرسة كان صديقَا مقربًا شأنه الصمت . يصمت لئلا تنفرجَ شفتاهُ بالهذر ، لئلا ينطقَ بغير الشدو والغناء ، وقد كان منذ الوهلة الأولى للقائنا ، تحت سوط معلمٍ ما ، شابًا بسيطًا يكنفُ بين ضلعيه قلب عجوز أبرحته التجارب والمحن ، أو لنقل كان شقيًا . استشعرت شقاءه ،حينها، من شكل حذائه الممزق ، وزيّه المدرسي المبعثر ، وكيس الأرز المخاط في شكل حقيبةٍ تمتطي ظهره المحدوب .وقد كنت في طفولتي أعتقد أنّ أشدَّ النّاس حزنـًا ، أشدَّ النّاس شقاءً وبصقـًا في وجه الحياة ، هم أولئك الذين تمزقت ثيابهم ، وتقطعت نعالهم ، وتقوست أضلاعهم لأنهم بالطبع ليسوا سِوى فقراء ، ليسوا سوى عديمي حيلة .
نعم سادتي ،من موقعي في مؤخرة الحافلة استذكرت الكثير . استذكرت كيف كان ينجو من
سياط المعلمين بأغنية . كان المعلمون يخيّرونه بينها وبين سوط كفيلٍ بإسقاط فيل ؛ فيشدو كطائر الجنة ، استذكرت كيف تحولت حصص الفيزياء المعملية إلى مهرجان راقص يستعرض خلاله معلم الفيزياء مهاراته في الرقص لجذب انتباه المعلمات ، استذكرت غناءه لقصيدة ” فتاة الخدر” *** على مسامع معلمة الدين بطلب منها ، وكنا قد حفظنا القصيدة من كتاب بعنوان ” أحلى 20 قصيدة حب “**** وابتكرنا لها لحنـًا ، استذكرت حديثـًا عابرًا عن نصب تذكاري يُخلده متى حقق أسطورةً كأسطورةِ “عبد الوهاب “***** ، استذكرت كيف تراقصن فتيات المدرسة المجاورة لصوته ، كيف خصته العمة فاطمة – بائعة المقصف – بوجبة يومية جزاء صوته ، كيف أخرجه المعلمون من دروسه للفرجة ، كيف تُلغى الإذاعة المدرسية في غيابه ، كيف كان نجيبًا يفقه الكثير ، قرأ الجميع حنجرته فقط ، كيف ، وكيف ، وكيف استذكرت أشياء كثيرة .
* *
كنت امخر زبد الذكرى حين بدأ الركاب بالتّوافدِ من تلقاء أنفسهم بشكلٍ غير منتظم. كانوا يتوافدون في بطءٍ ، واحدًا واحدًا ، وفي تلك اللحظة غاب الشَّاب عن ناظري . ترك َ ظلاً وغادر . فتشت عنه باهتمام بالغ . كيف يختفي كائنٌ بهذه السرعة ؟! سألت سائق الحافلة لم يُجِب .صرخت باسمه لم يرد . ترجلت عن الحافلة لم أجده . يا للخيبة . وما الحل ؟ لا بأس ، لا بأس أزوره في الغد وحتمًا ألتقيه ونتحادث . وعند اليأس من مجيئه أخرجت كتابًا من كيسي وطفقت أقرأ على نور مصباح الحافلة .
لم أكد أكمل صفحة حتى رأيته ، هو ذا ينقر الزجاج بسبابته ، وفي كفه قفص البسكويت “هيه أنت افتح ” وابتسامة مفاجئة تُسطرُ ثغره . قال مترددًا :
– أنت حسان . لقد عرفتك . تزاملنا في المدرسة ، أعتذر جهلتك ، لكنك تغيرتَ كثيرًا . ما هذا ؟ كتاب ؟! أما زلت تقرأ ؟ أما أنا فقد انقطعت عن القراءة منذ أمدٍ بعيد ، آخر كتابٍ قرأته كان قُبيل تسعة أعوامٍ من الآن ولست حزينـًا لذلك . لا لست حزينـًا . خذ هذه القطعة . بالله خذ ! من يستحي من بطنه يا رجل ؟! وأقحم قرصًا من قفص البسكويت في فمي .
بدت كلمات الشَّاب مرتبكةَ ، وفي وجهه حرجٌ وذعر . كان ينطق اللفظ بصعوبة . ما من شيءٍ في شكله يُدلل على انه بخير .سألته فيما كان يستشعر الكثير من الخجل تجاه شكله غير المرتب :- هل أنت بخير يا صديقي ؟ نظر إليَّ نظرة رجل متعجب وأجاب بطريقة من لا يكترث لشيء .
– هل أنا بخير ؟ أتسألُ أيها العزيز هل أنا بخير ! صدقني منذ مدة ليست بالقصيرة توقفت عن طرح هذا السؤال على نفسي . أرى أننا نظلُّ بخيرٍ متى حجمنا عن التساؤل به . إنَّ سؤالاً كهذا يعني التعميق من حالة وعينا بطبيعة موقفنا الحالي . الأمر سيان بالنسبة إليَّ ، والحقيقة أنني لا أرتقب شيئـًا من تقلبات حياةٍ لا تحمل أيَّ معنىً . أتدري ، يكفي أن نتجاهل كلَّ شيء ، أقول ، كلَّ شيء كي نحافظَ على مستوى من التقبل لفكرة أننا موجودون ها هنا . أننا أحياء ! نظر الركاب إلى الشًّاب باستغراب و تساؤل ، كيف يُمكن لشاب على هذه الحالة أن يتحدث بطريقةٍ كهذه ؟ كانوا يُبحلقون وجهه فيما هو مسترسلٌ بحديثه دون اكتراث . أردت لحظتها أن أصرخ بهم ” ما بكم تستعجبون لكلامه ؟ لا تنظروا شكله وحسب ، إنه رجلٌ قرأ “زولا”****** عندما كان في الابتدائية فقط ، لا تتعجبوا من قوله ، لا تشقوا عليه ، لا تفعلوا ذلكَ أرجوكم . هو لا يحتمل أكثر من هذا ، لا يحتمل .
– ما الذي تفعله الآن ؟ حسان ، ما الذي تفعله الآن ؟ أخبَرَني احدهم أنكَ أصبحت طبيبًا سألني على حين غفلة من حديثه ، وقد كنت أحدج وجهه بشيء من الإشفاق والتّحسر فأجبت :
– ليس المهم ما أفعله أنا ، المهم ما تفعله أنت .
وما أن طرحت عليه جملتي هذه حتى نظر إلى الأرض ورد بصوت منتحبٍ حزين :
– بالنسبة إليَّ لست شيئـًا ، جلّ ما أفعله هو التعايش مع فكرة أنني لم أصبح أيَّ شيء ، فأنا لم أكُ يومًا جزءًا من شيء . تلك هي حقيقتي . وصدقني لا أبالغ ، لا ، لا ، أنا لا أبالغ ، ولا أنتشي بفكرةٍ يائسة كهذه .صدقني لست ذا شأن . أما إذا كنت َ تقصدُ نشاطي اليومي ، كيف أجابِهُ الوقت و الحاجة ، فأنا لا أصنع الكثير ، لا أصنع شيئـًا ، أستيقظ ُ في الصباح دون رغبة ، أتذمر قليلاً ، أبصق في وجهي على المرآة ، ودون رغبة أخطو إلى العمل ، ألتقي ،مرغمًا ، بهذه الكائنات القلقة ، أشاتمها ، أعاركها ، ارتقب زوالها ، حتى انتصاف الليل ، أعودُ إلى حجرتي ، أُبحلق في شقوق السقف ، ثم أنام . هكذا أُبعثرُ الوقت ، أقطعه ، أنت تعلم . الوقت كالسيف إلم تقطعه قطعك ! وهأنذا أقطعة كحبة البصل وبلا بكاء . ما رأيك في هذه المقاربة وهذا التشبيه؟! المهم لا علينا ، أسألك جادًا هل أصبحتَ طبيبًا ؟
– نعم ، أصبحت . لكن ذلك لا يهمني . قلّي من أخبركَ بهذا ؟ وبالمناسبة هل تلتقي بأصدقائنا القُدامى فايز ، عمار ، حسين ؟
في البدء لم يُجب ، بحلق فيَّ ساخرًا ، وضع كفه الصلب على كتفي بهدوء كما يفعل الآباء حين يستشعرون سذاجة أبنائهم وقال :
– أنت رجل طيب ، أيّ الصداقات تقصد ؟ صدقني بت مؤمنـًا أننا حين نكـوّنُ صداقات إنما نرتكب الحمقَ . حين نُكوِّنُ صداقات إنما نؤجل من ظهور عداوات خارقة . حين نُصادقُ أحدًا إنما نؤجل من ظهور عدوٍ خارق . لا يهم ، لا يهم ، ما من شيء يهم في أمر الإنسان . خذ هذه القطعة أيضًا . خذ أيها الرجل الطيب . خذ . أذهلني رده . أمعنت النظر إلى وجهه . وسألته بصوت هادئ . وقد كنت متأثرًا لقوله :
– وأنا ، ماذا عني ؟ ألم نتشاطر الحزن والقوت ؟ الستُ صديقـًا ؟ هلا استثنيتني !
– لا عليك ، لا عليك ، الإنسان يُصبحُ أيَّ شيء . صدقني . إذا لزم الأمر قد تنقلب عدوًا لأقرب أقربائك . وأنا لا ألومك ، لا ألوم الإنسان ، فهذه طبائعه ، وهذه صفاته الدنيئة .
قطعَ الشّاب حديثه بهدوء بالغ . وشرع يُناظر السماء بحزن . كانت عيناه تطلقان وميضًا ناقمًا . وفي صدره هدير بركان غاضب . روحه المنتشية كانت تناجي شيئـًا هنالك ، النجوم ، القمر ، الظلام ، وجه الإله الحزين المحتجب .وهل من حيلةٍ لنفس كئيبة منسية في وجودٍ كهذا سوى التأمل والمناجاة والانتحاب سرًا .
كان ركاب الحافلةِ على حالهم . يُطالعون الشاب بمزيد من التعجب . أما سائق الحافلة فقد شُغل بمسح الزجاج وتلميعه .وفجأة شرع الشّاب يُدندن لحنه دون اهتمام بأحد . كان سائق الحافلة يستمع إلى الصوت بحماسة لإطلاق تعليق ساخر وفيما كان الشاب يتذوق ألحانه الهشة صرخ السائق هازئـًا ، وقد أحجم عن رش الزجاج بالرذاذ ” يا رجل الحمير في القُرى تغني بشكل أفضل صوتك عار . أسكت ،أسكت ” تقدم الشاب نحو السَّائق ، لوح كفه في وجهه وأشار بالصمت . قهقه السائق وتقافز ضاحكـًا ثم صمت . فإذا بمراهق أدمن برامج الغناء على شاشات التلفزة يقول ” اذهب وشارك في برامج الغناء ولكن بوصفك ما طور مياه ” ضحك الجميع لقول المراهق ، وصفق أصدقاؤه ببلاهة ، وسادت برهة من الصمت .
سألت صديقي محاوِلا كسر جمود اللحظة :
– هل توقفت عن الغِناء ؟
– نعم .
– فيمَ فعلت ذلك ؟ لقد كنت بطلاً ! لقد نِلتَ الكثير من الجوائز والقُبل . كنتَ شيئـًا !
– كنتُ شيئـًا هه ، صدقني لم أكُ يومًا جزءًا مِن شيء وعسى ألا أكونَ شيئـًا .هي جائزة وحيدة . نلتُ جائزةً من البرونز ، وعندما اشتد الجوع بي حاولت قضمها فعجزت ، ومن يومها قررت نسيانها والبحث عن رغيف حقيقي . لقد خيرتني الحياة بين الخبز والفنِّ فاخترت الخبز ، ليس لأنني جاحد بفعل الفنِّ وقدرته على جبر الحياة وتلميعها ، بل لأنَّ القوتَ أولوية مُلِحة . تلك هي قناعتي !
– ومتى فقدتَ أغنيتَك ؟ سألت باسمًا .
– منذ سبعة أعوام بدأت أعمل في مهنةٍ كهذه . زرتُ الكثيرَ من البقاع ، صرخت كثيرًا حتى تفطرت حنجرتي ، في البدء قاومت طويلاً ؛ لكني سرعان ما بدأت في إصدار أصوات غريبة وبشعة ، وها هو صوتي ، كما تلاحظ ، يُشابه صوت الدببة متى التسعتْ برياح سيبيريا !
– لمَ لا تحاول العودة ؟ ما المانع ؟ صدقني لا مانع في ذلك .
– صدقني لا فائدة مني ، فقد أحرقت الحياةُ روحي وبصقت في رمادها .
– عد يا صديقي عد . حاول . شرف المحاولة على الأقل .
– ربما أعود يومًا . أتدري ، سوف أُنشِدُ زوامل الحرب , صوت كهذا لن يستسيغه عاشقان .صوت كهذا قد تستسيغه الحرب ، والحقيقة أني لا أفكر في أنْ أصبحَ أٍّيَّ شيء.
– ولمَ اليأس ؟
– ما باليد حيلة .
– أسعيد بوضعية كهذه ؟!
– هل تعتقد بأني سعيد بهذه الوضعية ؟ لا ، لست سعيدًا ، ومتى اجتهدتُ في ردع جيش من الاحازين الغليظة أفشل على الدوام . ومع ذلك ، لا أهتم ، لا أكترث ، أتدري ، كانت جدتي تقول دائمًا ” على المرء أن يقبع في حدودٍ دقيقةٍ بين الجذلِ والحزن لئلا يطغى الحزن على قلبه ، ولئلا يجعله الفرح عرضةً لصدمات الحياة ” لا أعلم لمَ انتصب على الدوام في طرفٍ واحدٍ ، طرف المأساة ، لا أعلم لمَ يحدث لي ذلك . أنا رجل غير متطلب ، كنت في المراهقةِ متطلبًا ، أما الآن فلا ، تلك هفوة أعتذر للحياة عنها ، أرى أن ترك الأحلام الشاطحة هو تعبيرٌ متقدمٌ عن مستوى وعينا بطبيعة الحياة . في المراهقة تيبست مفاصلي من الوقوف على ناصية الحلم . أما الآن فأنا شخص غير متطلب ، شخصٌ لم يجنِ شيئـًا من تطلبه ،لم يجنِ شيئـًا. آخ، آخ ، آخ . أنظر كم أنا ضعيف أشكو إليك بطريقة مذلة . وراح يغني بصوته الغريب . توجعت كثيرًا لردود الشاب ، هي موقف تيه مكتمل ، كانت كلماته تندفع عن قلبه جذوة ً، جذوة . آه لكم هي مؤسفة لحظات الحيرة والتساؤل عن شقاء لا نهاية له !
* * *
بدأ الركاب بالتململ لتأخر السائق عن الرحيل . أما نحن فكنا مستغرقين في الحديث . وبشكل مفاجئ ، أدار السائق مفتاحه في علبة التشغيل ، لعن الركاب ، وانطلق دون إشارة مسبقة . حدث ذلك بسرعة خارقة . كان الشاب يتهيأ لقول جُملٍ كثيرة ، وتهيأت للاستماع بشغف كبير . وللوداع أخرجت ساعدي من خلال النافذة محاولاً التلويح للشاب . لم أوفق . فقد شُغل بجمع النقد المبثوث على الأرض . كان سائق الحافلة قد رمى بقطع النقد إلى صدر الشاب بزهو وتكبر . سارت الحافلة في دربها ، وصرت برحيلها مكتئبًا ،يا لهذه الصدفة ! هل تفاعلت معها بشكل مرتب ؟ كان هناك الكثير ليُقال ، الكثير لأقول ، ما الحيلة ؟ لا حيلة . وبطولِ الدرب طأطأت رأسي ، وبلا وعي شردت أردد جملة صديقي القديمة ” لو أنني آلهة السعادة لصادقتُ كلَّ تريحٍ أصادفه ، وأهديته قلبًا جديدًا كي يكفَ عن البكاء ” وبكيت .
هامش :
– *. عبد الله عبد الوهاب نعمان (1907- 1982 ) الشاعر اليمني المعروف .
– **. المرأة التي فقدت زوجها ” لفظ دارج “
– ***. قصيدة ماجنة كتبها الشاعر الجاهلي ” المنَخّل اليشكُريّ ” شاعر عاش في فترة حكم “النعمان بن المنذر ” ولم يكتب ِسوى هذه القصيدة كما تروي كتب التراث يُعتقد بأن هذا الشاعر توفي في عام ” 603 م “
– ****. المقصود هنا كتاب ” أحلى عشرين قصيدة حب في الشعر العربي ” للشاعر والإذاعي المصري ” فاروق شوشة (1936 – 2016 ) ” صاحب البرنامج الإذاعي الأشهر ” لغتنا الجميلة ” على إذاعة القاهرة البرنامج العام “
– ***** . محمد عبد الوهاب (1902- 1991 ) الفنان والملحن المصري المعروف .
– ****** . إميل زولا ( 1840- 1902) الكاتب الفرنسي المعروف صاحب رواية “جرمينال ”
Salahald22@outlook.sa