منذ اندلاع الأزمة الخليجية، برزت الساحة اليمنية كمختبر حقيقي وجدّي لاستكشاف مسارات تلك الأزمة، على اعتبار أن اليمن يشكل نقطة التقاء وافتراق، في الوقت نفسه، لمصالح العديد من الأطراف. كانت التوقعات تدور حول «طلاق محتمل» بين السعودية و«التجمع اليمني للإصلاح» (فرع الإخوان المسلمين) تقتضيه الحرب المشتركة مع أبو ظبي على الدوحة. لكن الطابع المرن الذي يتّسم به «إخوان اليمن» من جهة، والسمة البالغة التعقيد التي تطبع الساحة السياسية اليمنية، حتى منذ ما قبل اندلاع العدوان، يجعلان أيّ محاولة لإعادة ترتيب الأوراق في هذا البلد عملية متشعبة ومتعددة الأوجه.
تنبئ المعطيات السياسية الراهنة بأن الرياض وأبو ظبي تتجهان، على ما يبدو، إلى تسوية خلافاتهما في اليمن، لا على قاعدة «التصالح وصُفُوّ النوايا»، بل لكون التحالف الجديد، الذي يقوده «المحمدان» (ابن سلمان وابن زايد)، يقتضي توحيد الجهود في الساحات التي تشكل مضمار تصارع مع قطر، والمضيّ معاً نحو إقفال ملفات باتت تشكل عبئاً كبيراً على الرياض، من أجل التفرغ لملفات أخرى يرى «المحمدان» أنها ستفتح لهما باب التربّع على عرش «امبراطورية» الجزيرة العربية. من هنا، يُتوقّع أن يشهد اليمن، وهو ما بدأ فعلاً، عمليات مقايضة و«أخذ وعطاء» وتقاسم نفوذ، توطّئ من خلالها الدولتان للنزول عن أعلى شجرة الحرب، ومن ثمّ نقل الكباش إلى الميدان السياسي، حيث بإمكانهما التفاوض بأدوات ناعمة بدلاً من لغة النار.
ليل الأربعاء ــ الخميس، أصدر الرئيس اليمني المستقيل عبد ربه منصور هادي سلسلة قرارات أطاحت 3 من محافظي المحافظات الجنوبية، هم أعضاء في «المجلس الانتقالي الجنوبي»، الذي تم تشكيله في أيار الماضي وحظي بدعم إماراتي واضح. للوهلة الأولى، كان يمكن قراءة الخطوة على أنها ضربة سعودية إضافية للإمارات، بعد الضربة الأولى التي أزاحت محافظ عدن، عيدروس الزبيدي، ونائبه، الوزير السلفي هاني بن بريك، لكن المعلومات المتداولة بشأن قرارات هادي، والسياقات التي تأتي ضمنها تلك القرارات، تشي بأن ثمة رضاءً إماراتياً بما يجري.
في المعلومات، تفيد مصادر جنوبية بأن قرارات هادي جاءت يإيعاز من «اللجنة الثلاثية العليا» التي تم تشكيلها بين السعودية والإمارات من أجل تنسيق خطواتهما في اليمن، وهذا ما يعني أن القرارات حظيت بموافقة إماراتية قبل صدورها. كذلك تفيد المصادر بأن أبو ظبي حظرت على أعضاء «الانتقالي» الموجودين على أراضيها إصدار أيّ بيان رداً على قرارات هادي، مضيفة أن السلطات الإماراتية عمدت إلى سحب جوازات السفر من أولئك الأعضاء ومنعهم من مغادرة أراضيها، مهدّدة باعتقال من يحاول السفر إلى اليمن. تهديدات تنبئ بأن الإمارات ستغضّ الطرف، بل ستسهّل عملية تقويض «الانتقالي»، مقابل أثمان ستقبضها على مستويات أخرى، منها، على سبيل المثال، ما تم قبل 3 أيام من إخراج للألوية المحسوبة على هادي من مدينة عدن، وتوزيعها على أبين والضالع ولحج وتعز .
ما يُلاحَظ، في هذا السياق أيضاً، أن قرارات هادي، على الرغم من إسقاطها أحد أبرز رجالات أبو ظبي في جنوب اليمن، أي محافظ حضرموت أحمد بن بريك، إلا أنها لم تمسّ «جيشاً» من شخصيات موالية للإمارات، بينها وزراء ووكلاء وقيادات أمنية وعسكرية. وهو ما يعني أنّ الإماراتيين سيحتفظون، أقله على المدى المنظور، بنفوذهم في غير مؤسسة وجهاز. يُضاف إلى ذلك أنّ الإمارات ستتمكن من إعادة تعويم حليفها السياسي، رئيس الحكومة السابق خالد بحاح، الذي أزاحه هادي من المشهد في نيسان 2016، والذي عاد إلى اليمن يوم الإثنين الفائت، في خطوة فُهم منها أن ثمة قبولاً سعودياً بتصدير الرجل من جديد، كبديل محتمل لهادي الذي احترقت أوراقه لدى الأطراف جميعاً.
عودة بحاح قبيل أيام من صدور قرارات هادي مؤشر إضافي إلى أن ثمة «صفقة» ما تُطبخ بين الرياض وأبو ظبي؛ صفقة يُتوقع أن يتم بموجبها إسناد منصب رفيع إلى بحاح الذي تحدث، عقب عودته إلى المكلا، بلغة الواثق من مهمته المفترضة، قائلاً: «نتطلع للمعنى الحقيقي للعيد… يوم ندحر الإرهاب والانقلاب ونستعيد الدولة المدنية… دولة الشراكة والعدل والمساواة». وفي حال صحّ ما يتم ترجيحه من ضرب هادي ببحاح، فإن ذلك قد يفتح الباب على خط تواصل مع صنعاء التي لا تتحسّس حيال دور محتمل للرجل، لكن الهاجس الرئيس ينصبّ على محاولة التحالف السعودي الإماراتي خرق صفوف صنعاء بـ«قميص» بحاح، من خلال التواصل مع جهات محسوبة على الرئيس السابق علي عبدالله صالح، دون سواها. استراتيجية يعزز سيناريواتها الحديث الدائر عن سعي ابن زايد لإقناع ابن سلمان بتصدير وجوه شابة من مثل أحمد علي عبدالله صالح، وجلال عبد ربه منصور هادي.
في المقابل، لا يبدو أن الأذرع العسكرية التي شكّلتها الإمارات في جنوب اليمن ستظلّ في منأى عن المساومات الجارية مع السعودية. في هذا الإطار، يسود الترقب الأوساط الجنوبية بشأن مصير قوات «الحزام الأمني» التي لا يُستبعد توزيعها على الجبهات، شأنها شأن ألوية الحماية الرئاسية التابعة لهادي. مصير يرجّح مراقبون أن تلقاه، كذلك، قوات «النخبة الحضرمية»، التي يسود اعتقاد بأن تكليف قائد المنطقة العسكرية الثانية، فرج سالمين البحسني، بتولي مهمات محافظ حضرموت، ما هي إلا مقدمة لعزله، كونه لن يستطيع القيام بالمهمتين معاً، ومن ثم فكفكة «النخبة» التي يُعدّ البحسني قائدها الفعلي. فضلاً عمّا تقدم، سيكون على الإمارات القبول بما سيفرزه «الفحص السعودي» للمعسكر «الإخواني» في المرحلة المقبلة، من بقاء قيادات «إصلاحية» في خندق «الشرعية»، كونها، بالمعيار السعودي، «ماركات يمنية» لا يمكن الاستغناء عنها. من هؤلاء، على سبيل المثال، الجنرال علي محسن الأحمر، الذي لم تكد تمر ساعات على صدور قرارات هادي حتى حطّ في محافظة مأرب، حيث عبّر عن شكره لـ«دول التحالف بقيادة السعودية والإمارات على وقوفها إلى جوار الشرعية».
في خلاصة المعطيات، يظهر أن السعودية والإمارات تحاولان تصفية قضاياهما في الساحة اليمنية، تمهيداً لتصعيد الصراع مع «الشقيق» القطري «المتمرد»، وتوطئة لعمل سياسي يستهدف تشكيل صورة «اليمن الجديد» على هواهما، لكنّ دون رغبة الرياض وأبو ظبي عوائق كثيرة، ليس أكبرها ممانعة جبهة صنعاء، حتى الآن، أيّ اختراق يشتّت وحدتها.