الحصبة – هايل… مساحة حب وقرار

اخترنا لك

د.بلقيس محمد علوان:

عائدة إلی بيتي علی الباص المتجه من شارع الحصبة إلی شارع هايل، في الكرسي الذي خلفي يجلس شابان ريفيان كما يصفان نفسيهما، في لهجتهما لكنة بدوية، لعلهما من البيضاء أو الجوف أو ربما مأرب، ولعل لهجتهما اختلطت بلهجات أخری كحال لهجة كل من يسكن صنعاء لسنوات لا يدري إلا وهو يتحدث �ليطاً من لهجات تخف معها حدة لهجة منطقته.
شدني الحوار الذي دار بينهما، والذي يبدوا أنهما مستغرقين فيه وغير حريصين على خفض صوتيهما: كل يحكي للآخر عن قصة حبه وحبيبته بسعادة بالغة.
الأول: تعرفت عليها قبل بدء «الواتس». كنا في منتدی علی الإنترنت. كانت دائماً تتساءل عن رأيي في المرأة. لم أتأكد أنها تحبني إلا بعد أن صارحتها أنا. تحفظت هي كثيراً قبل أن تعترف لي بحبها… ثم واصل: يا أخي مساكين البنات، كأن الحب جريمة تظل ساكتة لحد ما يصارحها الواحد وتطمئن ثم تفصح عن مشاعرها. وهناك من يستغلون مشاعرهن ليعيشوا قصة حب أثناء الدراسة، ثم يذهب ويتزوج من قريته أو منطقته.
سأله رفيقه متحمساً: هل قابلتها؟ أجابه: إلی الآن لا.
وأنت؟ قال له أنا شاب ريفي مسكين، لكن هي شجاعة، كنت مندوب طلاب دفعتي لأربع سنوات إلی أن تخرجت قابلتها مرة في الجامعة ومرة في حديقة السبعين…
كانت نبرة صوت الآخر تعلو بحماس وتشجيع وفرح. وكأنه يبارك هذا اللقاء الذي حرم منه.
نتحدث عن الحب سراً، ونعلن الكراهية والعنف علناً، وبصوت عال، وكأن ذلك مبعث فخر!
إنه خلل واضح، قد تقتل فتاة وتحرم من كل وسائل التواصل والاتصال وتحرم من استكمال دراستها لأن أخاها أو أباها اكتشف أنها تحب أو تتواصل مع شاب بطريقة ما. إنه العار وشرف العائلة مهدد بتهور هذه البنت، الغريب أن الأسرة لا تنظر لكون ابنها يحب أو يتواصل مع فتاة من نفس المنظور، رغم أن علی الطرف الآخر بنت، هذا لا يتهدد شرف العائلة لأنه رجل، والرجل يحمل عيبه كما يقال.
تظل البنت تحت الوصاية حتی ممن هو أصغر سناً منها لمجرد أنه ذكر.
ظلت واحدة من أهم الأديبات في اليمن يرافقها أحد أطفال العائلة لحضور المنتديات والمهرجانات واحتافائيات تسليم الجوائز، إلی أن أعلنتها، وبصوت مسموع: لن أسافر ما دام هؤلاء الأطفال يرافقونني.
هل فعلاً تصدق أسرتها أنها تحميها بطفل؟!
تحميها ممن؟ وبمن؟
إحتجاجها ورفضها السفر مجدداً مع طفل حمل الأسرة علی الموافقة علی سفرها بمفردها، هذا وهي الأديبة الشاعرة الراشدة التي تشغل منصباً محترماً. سيقول البعض إن هذه الأسرة رائعة لأنها ساعدت ابنتها ولم تحرمها من الوصول والمشاركة، لكن الأمر ليس أكثر من عدم ثقة وخوف مما يعتقدونها قوانين مجتمعية الالتزام بها يحمي كيان الأسرة ويحافظ علی اتساق الفرد في المجتمع.
ولا أری تفسيراً إلا الخوف من الخروج عن السيطرة في مجتمع ذكوري يعطي للذكر السلطة والسطوة علی كل أنثی في الأسرة، وأحياناً حتی خارج محيط الأسرة.
المشكلة ليست وليدة سنوات أو عقود.

إنه إرث متراكم

تظل علاقات النوع الاجتماعي هي تلك المساحة الشائكة التي تصيب من اقترب منها بما هو مغاير بضربات مؤلمة وأشد إيلاماً، لا مانع من النيل من سمعته أو تكفيره، هذه منطقة محظورة ومقلقة وتهدد ثوابت يعتقد أن المساس بها يقوض المجتمع، ولهذا يواجه هذا الشخص أو ذاك دينياً ومجتمعياً، ولا يكون أمامه إلا أن يستمر بعدها في المواجهة مهما كلفه الأمر، أو الانصياع والتحليق مع السرب (وهو ما يحدث غالباً).
التفسير القريب أيضاً أن الرجل اعتاد أن يتحكم في كل تفاصيل الحياة: يصدر التعليمات، يقبل ويرفض، وهذه مساحة سلطة لا يمكن أن يتنازل عنها، وبالتالي يبدو من الخطر أن يسمع صوت المرأة تنتقد، أو تطلب أو تحتج، أو تقرر.
الغريب في الأمر أن المرأة في بلد كاليمن تقوم بأدوار اقتصادية واجتماعية لا يمكن أن تقوم للمجتمع قائمة بدونها، فعلی عاتقها يقوم القطاع الزراعي وتجدها يداً بيد وجنباً إلی جنب مع الرجل، أباً أو أخاً أو زوجاً، والنساء العاملات جميعاً في القطاع الحكومي أو الخاص يسهمن إسهاماً واضحاً في مجال أعمالهن، وتنعكس أدوارهن ريفاً وحضراً علی الاقتصاد والتجارة وعلی حياة الأسرة، وتساهم وقد تنفرد بإعالة الأسرة، ومقابل كل امرأة في المدينة هناك ثلاث نساء يقطن الريف، أليس من الغريب إذاً أن يقمن بكل هذه الأدوار ولا يملكن حق اتخاذ القرار؟
لا تذهب أذهانكم بعيداً حيث القرارات السيادية والسياسية، فما زالت المراحل طويلة جداً، وما زال البعض ينظر لها أنها رفاهية وتقليد للغرب، أتحدث عن قرارات بسيطة وبسيطة جداً: أن تذهب للطبيب لأنها مريضة، أن تواصل تعليمها، أن تختار تخصصها الدراسي، أن تعمل، أن تقرر كيف تتصرف في مالها الخاص، أن تحب، أن تختار شريك حياتها، أن تقول لا أو نعم، أن تخرج في نزهة…
ليست قضية عدم ثقة، كما ليست عدم استطاعة، بل تمسك بسلطة وتسلط في مجتمع ما زال بحاجة لتمكين نسائه ورجاله علی حد سواء.
ومع كل ذلك، وفي زمن الحرب وويلاتها ومآسيها ثمة شابان ريفيان يعلنان بسعادة عن الحق في الحب والإفصاح والإختيار واتخاذ القرار لكل رجل وامرأة، وإن كان علی باص الحصبة – هايل.

 

 العربي

أحدث العناوين

فصائل المقاومة الفلسطينية تواصل قصف مستوطنات الاحتلال

بثت قوات الشهيد عمر القاسم، اليوم الخميس، مشاهد من قصف مستوطنات غلاف غزة برشقات صاروخية من العيار الثقيل بالاشتراك...

مقالات ذات صلة