منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية تتوسع يوميًّا دائرة الأعداء والرافضين للسياسة الأمريكية على المستوى الاقتصادي بشكلٍ خاص، فبعد أن كانت روسيا وكوريا الشمالية هما أبرز الأعداء، باتت الصين على رأس القائمة في ظل الحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأمريكي على بكين، ثم دخلت تركيا على خط الصراع، ولا ننسى بالطبع إيران عقب عصف ترامب بالاتفاق النووي التاريخي الذي كان قد اعتمده سلفه أوباما.

وفي ظل سياسة العقوبات الاقتصادية التي تلوح بها الإدارة الأمريكية في وجه هذه الدول، مستخدمة في ذلك الهيمنة الطاغية للعملة الأمريكية، إذ تواصل استخدام الدولار للضغط على الجميع، باتت هذه الدول تبحث عن رد حقيقي ينال من واشنطن، للحد من هيمنة الدولار على مقدرات التجارة العالمية، لكن هل تستطيع هذه الدول النيل من الدولار، وهل من الممكن أن تقود تلك المبادرات الاقتصاد العالمي للتخلي عن الدولار؟

إلى أين وصلت سيطرة الدولار عالميًّا؟

في الواقع إن هيمنة عملة واحدة استثناء لا سابق له في التاريخ، إذ يمكن القول إن الدولار يسيطر تقريبًا على أغلب المعاملات التجارية في العالم، ويجري تسعير معظم السلع بالدولار، وفي مقدمتها النفط، وكذلك الأسهم، وهو يمثل نحو 85% من العملات المتداولة في التجارة الدولية، وقد وصلت الاحتياطات المالية المقومة بالدولار إلى أكثر من 60% في العالم، كما أن حركة سعر الدولار صعودًا وهبوطًا من الممكن أن تحدث هزة اقتصادية عالمية، بل إن اتجاه الأموال حول العالم حاليًا مرتبط ارتباطًا مباشرًا بقيمة الدولار، وهو الأمر الذي ظهر جليًا عندما بدأ المركزي الأمريكي في تحريك سعر الفائدة على الدولار في الأشهر الأخيرة.

فقد باتت الاستثمارات تتوجه بحسب اتجاه الدولار ومراكز القوى الاقتصادية العالمية كذلك، ولم لا؟ فالدولار هو سيد العملات الدولية بلا منازع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعندما قرر الرئيس الأمريكي نيكسون في 1971 منع تحويل الدولار إلى ذهب، وإعلان انهيار نظام «بريتون وودز»، بات الدولار منذ ذلك الحين «العملة المعيارية» الأولى في العالم، التي تقاس قوة العملات الأخرى بناءً على ارتفاعها أو انخفاضها في مواجهة الدولار.

وينظر كثير من المستثمرين إلى الدولار على أنه ملاذ آمن كالذهب، بل ربما يتفوق عليه مع رفع أسعار الفائدة، وهو ما يلاحظ خلال الأشهر الأخير من 2018، إذا ما جرى مقارنة الذهب بالدولار، فالعملة الأمريكية تستمد كثيرًا من القوة من خلال هذه النظرة، والتي ترفع التدفقات المالية نحو أمريكا.

لكن رغم هذه السيطرة فإن سعر صرف الدولار حاليًا لا يعبر عن قيمته الحقيقية، وهو أمر يعزز من فكرة أن العملة الأمريكية هشة ويمكن أن تفقد كثيرًا من قيمتها بسهولة، فبحسب تقرير صدر عن صندوق النقد الدولي في نهاية يوليو (تموز) 2017، فإن قيمة الدولار الأمريكي مبالغ فيها بنسبة تصل إلى 20%، وذلك استنادًا إلى أساسيات الاقتصاد الأمريكي.

من المهم هنا توضيح فكرة أن تراجع سعر صرف الدولار لا يعني تراجع سيطرته، فالسيطرة تعتمد في الأساس على نسبة استخدام العملة سواء في المعاملات التجارية أو الاحتياطات الدولية، وكذلك القروض المصرفية، فمن الممكن أن يتراجع سعر صرف الدولار ولا تتراجع نسبة سيطرته عالميًّا، وبحسب برونو كولمان، عضو المجلس التنفيذي في مصرف ديغروف بيتركام، فإن ضعف سعر الصرف لا يطعن في الهيمنة، بمعنى أن العملة الضعيفة والدولية لا تتردى أهميتها في المبادلات، لكن ما نتحدث عنه هنا هو تراجع الهيمنة، وليس تراجع سعر الصرف.

وكما ذكرنا فإن سيطرة الدولار على المعاملات المالية في العالم تكاد تكون مطلقة، ولكن منذ تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة يزداد عدد الرافضين هذه السيطرة التي تضر اقتصادات كثير من الدول من خلال الهبوط الحاد للعملات المحلية وتفاقم التضخم، ويمكن القول إنه كلما اتسعت دائرة الأعداء لهيمنة الدولار، كلما كان الوقت مناسبًا أكثر، أو ستكون نسبة فشل المحاولات أقل، فالقضاء على هذه الهيمنة من المستحيل أن يحدث من جراء قرارات أو محاولات فردية.

روسيا وتركيا وإيران.. نحو التبادل بالعملات المحلية

واجهت كل من روسيا وتركيا وإيران عقوبات اقتصادية مؤخرًا من الإدارة الأمريكية، ما كان له أثر سلبي مباشر في المناخ الاقتصادي بهذه الدول، ودفعها للسعي نحو التبادل التجاري بالعملات المحلية، وهو الأمر الذي دعا إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرًا، واستجابت روسيا من جانبها لهذا الأمر.

وفي 11 أغسطس (آب) 2018، قال الرئيس التركي أن بلاده تستعد حاليًا لاستخدام العملات المحلية في تجارتها مع كل من الصين، وروسيا، وإيران، وأوكرانيا، وغيرها من الدول، موضحًا أن تركيا مستعدة لتأسيس النظام نفسه مع أوروبا حال كانت تريد الخروج من قبضة الدولار، على حد تعبيره.

الإعلان التركي قابله موافقة روسية سريعة، إذ أكد سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي أن روسيا تدعم استخدام العملة المحلية بدلًا من الدولار في تجارتها مع تركيا، مشددًا على ثقته في أن دور الدولار بوصفه عملة احتياطية دولية سينحسر ويزول بمرور الوقت.

الوزير الروسي كشف أن هذا الاتجاه لن يكون مع تركيا فقط، بل إن هناك عمليات مماثلة ستتم كذلك مع إيران، بالإضافة إلى تنفيذ مدفوعات بالعملات الوطنية بالفعل مع الصين، على حد ذكر لافروف.

وبشكل عام فإن عملية اعتماد العملات المحلية بدلًا من الدولار، التي جاءت مؤخرًا بقيادة تركيا وإيران وروسيا والصين، سيكون لها تأثيرات مستقبلية قد ينتج منها إلغاء هيمنة العملة الأمريكية على التجارة الدولية، حال انضمام مزيد من الدول لهذه العمليات، ومن المتوقع حدوث ذلك في ظل السياسة العدائية الواضحة التي ينتهجها الرئيس الأمريكي.

وفي الواقع تحتاج هذه الخطوة لمشاركة صينية أوسع لتحقيق نتائج قوية، مثلما يرى باري إيشينجرين، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا وأحد المساهمين في كتاب «كيف يعمل نظام العملات الشامل»، فالانقلاب على الدولار يحتاج في البداية إلى فقد ثقة المستثمرين الأجانب في سندات الخزينة الأمريكية، وهذا الأمر ربما يحدث من خلال حدث سياسي سلبي كبير في أمريكا، وهو ما يوفره بالفعل ترامب.

ويضيف إيشينجرين أن سيطرة الدولار قد يقوضها منطقة صينية كبيرة تتعامل بالعملة المحلية ردًّا على انعزالية ترامب، وفي ظل التوسع الصيني سواء في أفريقيا أو آسيا، من الممكن أن تتحقق هذه الخطوة، والتي سيكون لها أثر مباشر بالطبع.

«البترويوان».. طريق الصين لعرقلة الدولار

على الجانب الآخر لا شك أن إقحام الصين لعملة اليوان في التعاملات النفطية الدولية (البترويوان)، هي خطوة أساسية كذلك تضيف مزيدًا من التأثير في هيمنة الدولار، وهي خطوة قد تؤدي إلى تغيرات هائلة في لعبة النفط العالمية، ما قد يؤدي بالتالي إلى تآكل أولوية الدولار الأمريكي.

وقد بدأت الصين في 26 مارس (آذار) الماضي تداول عقود النفط الخام المقومة بالعملة الصينية في بورصة شنغهاي الدولية للطاقة. وتعد الخطوة الصينية تحديًا مباشر لخطة التسعير التي يهيمن عليها الدولار في أسواق النفط الخام، وهو الأمر الذي يعزز من وضع الدولار بوصفه عملةً احتياطية دولية، إذ تستخدم الدول الدولار لشراء النفط، لكن هل هناك عوامل قد تقود هذه الخطوة للنجاح؟

يتوقف هذا الأمر على مدى الإقبال على «البترويوان»، فلا شك أن الدول التي تعاني من أزمة مع الدولار ستختار ه، فالطبيعي حاليًا أن أية دولة ترغب في شراء النفط يجب أن تحصل أولًا على الدولار الأمريكي؛ مما يخلق طلبًا كبيرًا على العملة في الأسواق الدولية، وهو جانب يعزز الثقة العالمية في الدولار، ولكن الصين بهذه الخطوة وضعت خيارًا جديدًا أمام هذه الدول، فالحصول على الدولار لم يعد شرطًا الآن لشراء النفط.

هذا بالإضافة إلى أن الصين هي أكبر مستورد للنفط في العالم، ما يجعل لديها إمكانية اختيار من يوافق على التسوية باليوان من البائعين، خاصة عندما تكون أسعار النفط منخفضة نسبيًّا، ويتعين على البائعين الحفاظ على مزيد من الصادرات.

لكن رغم ذلك فليس الأمر بهذه البساطة، ويحتاج لكثير من الوقت، خاصة أن أكبر مصدري النفط في العالم (السعودية) وافقت في 1974 على قبول الدولار الأمريكي حصرًا لمبيعات النفط، مقابل مساعدات ومعدات عسكرية أمريكية متواصلة. كما يصعب في هذا الصدد أن نجد نتائج سريعة، خاصة مع وصول إنتاج النفط الخام الأمريكي إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، ولكن كما ذكرنا فالتحرك الجماعي في النهاية هو ما سيقوض كثيرًا من هيمنة العملة الأمريكية.

احتياطي الذهب.. البديل المطروح دائمًا

دائمًا ما نتحدث عن الذهب مع كل صراع دولي حول العملات، فالمعدن النفيس هو البديل الجاهز دائمًا لعلاج مشاكل العملات، وهو الملاذ الآمن على كل حال، ولكن كيف يمكن استخدام الذهب في محاولات الانقلاب على الدولار؟

كما أوضحنا أن أحد عوامل سيطرة الدولار تكمن في النسبة الضخمة التي يستحوذ عليها من الاحتياطات الدولية لدى البنوك المركزية، والتي تصل إلى 64% في بعض الدول، ومؤخرًا بدأت الاحتياطات الدولية من العملة الأمريكية تتراجع تراجعًا ملحوظًا، ففي الربع الأول من 2018، سجلت 6.282 تريليون دولار أي نحو 62.72% من الاحتياطات الدولية، وذلك مقابل 6.499 تريليون دولار في الربع الأول من عام 2017.

هذا التراجع له دلالتان: الأولى أن السياسة الأمريكية الراهنة لها آثار سلبية في وضعية الدولار، وربما تؤدي في النهاية إلى تقليص جاذبيته في الأسواق الدولية، والثانية هو أن الذهب قد حل بديلًا لهذا الفراغ، ومن الممكن أن يتزايد دوره أكثر في المستقبل القريب، في ظل محاولات الانقلاب على الدولار.

عمومًا الذهب هو أهم المعادن النفيسة وأكثرها انتشارًا، واقتناء الذهب رغبة دائمة لدى الأفراد والدول –متمثلة في البنوك المركزية– كما أنه جزء أساسي من الاحتياطات لدى الدول، ونظرًا إلى القيمة المادية والمعنوية التي يتمتع المعدن الأصفر بها؛ فسرعان ما تحتمي البنوك المركزية به في حال وجود مخاطر اقتصادية أو سياسية، وهذا بالتحديد ما يحدث في العالم خلال الآونة الأخيرة، فلا تزال البنوك المركزية المشتري الصافي الأكبر من الذهب في العالم.

وكان تقرير صادر عن مجلس الذهب العالمي، كشف العام الماضي عن ارتفاع الطلب العالمي على الاستثمار في الذهب بنسبة 70% على أساس سنوي خلال 2016، وهو أعلى مستوى له في أربع سنوات، إذ أوضح أن الطلب على الاستثمار في المعدن النفيس قفز إلى 1561.1 طن متري خلال عام 2016 من 918.7 طن متري في 2015.

وكانت وتيرة شراء البنوك المركزية للذهب خلال العام الماضي سريعة جدًا مقارنة بالأعوام الماضية، فعلى سبيل المثال، زادتروسيا خلال 2017 ما بجعبتها من الذهب بنحو 223 طنًّا، بزيادة نسبتها 17.7%، ومنذ يونيو (حزيران) 2015، أضافت إلى احتياطاتها الدولية 558 طنًّا، وهذا المعدل قياسي، إذ كشف البنك المركزي الروسي عن «أن إجمالي ما يملكه من المعدن النفيس وصل إلى 1838.211 طن بنهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي».

على الجانب الآخر، كانت تركيا ضمن الدول الأكثر شراءً للذهب خلال العام الماضي، إذ سجّل احتياطي البنك المركزي التركي من الذهب رقمًا قياسيًّا وصل إلى 564.8 طن، وارتفعت قيمة الذهب الذي يحتفظ به البنك من 14.1 مليار دولار إلى 23.5 مليار دولار في عام 2017.

وفي حال فرضنا أن هناك اتجاهًا عالميًّا نحو تعزيز احتياطات الذهب على حساب الدولار، فإننا سنكون أمام عامل مهم جدًا من العوامل التي ستقوض كثير من هيمنة العملة الأمريكية، ولكن بشرط أن لا يكون هذا اتجاهًا فرديًّا، وهو الشرط الذي يضمن عدم فشل المحاولات الجديدة التي فرضتها الظروف الحالية.

أحمد طلب /ساسة بوست