كيف تكون الحكومة شرعية؟ قراءة جديدة في “العقد الاجتماعي”

اخترنا لك

عبد العزيز لبيب

ما هي المبادئ التي بمقتضاها تكون الحكومة شرعية ؟ هذا هو السؤال الرئيس في العقد الاجتماعي. وإذ كان مكيافيلي قد أضعف السلطان الأميري بأن ذلل علم السياسة، فإن روسو ركزه في دائرة التشريع. ولم يكتف روسو بالقول، إن الشعب هو مصدر السيادة وإنما قال بأن الشعب هو السيد عينه، بل هو صاحب السيادة الأوحد. ولا ريب في أن العقد الاجتماعي أحدث تغييراً عميقاً على المنظورات التي كان ينظر منها إلى السيادة، والقانون، والعدل، والدولة، والمواطن، والدستور. بل وتغيرت دلالة كلمة «شعب» في دائرة السياسة كما في دائرة الوجدان؛ حتى لقيل عن روسو إنه واضع فلسفة الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان. ولقد جمع من المفارقات ما لم يجمعه غيره فكان “مخترع” الحداثة، وناقدها الجذري، وفيلسوف ازمتها في الآن معاً. هذا ما جعل أجيال القراء، على امتداد قرنين ونصف القرن، لا ينفكون يرجعون إلى ما ينعت بـ الكتاب العمدة في السياسة الذي لم يفقد ، إلى اليوم، عنفوانه، بل لم يزده دهاء التاريخ إلا راهنية على الرغم من التحديات التي تواجهها النظريات التعاقدية.

1 ـ «العقد الاجتماعي» : القصد والقيمة:

كان لصدور كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو في سنة 1762 أثر قوي في مشهد الفلسفة السياسية العام إذ تغيرت، بالكلية ، المنظورات التي كان ينظر منها إلى السيادة، والقانون، والحق، والعدل، والدولة، والمواطن، والدستور. وتغيرت كذلك دلالة كلمة «شعب» لا في حقل فقه القانون وعلم السياسية وحسب، بل في حقل الشعور والوجود أيضاً. ومذاك لم يعد للأشياء ولا للكلمات الواقعة في حقل الشأن العمومي للإنسانية الدلالة التي كانت لها قبل روسو، وإن أنت حصرت منتقيات الفلسفة السياسية ألفيت كتاب العقد الاجتماعي من بين امهاتها. هذا على الاقل في الفكر السياسي الغربي الحديث؛ فهو كتاب عمدة بين عناوين شهيرة، وهو مدخل لا محيد عنه لقراءة سياسة التنوير وتأولها. وبالمقابل، من الجائز أن يقرأ العقد الاجتماعي، وتحلل تجريداته الحقوقية، وتفكك اعتياصاته الأنتروبولوجية السياسية على ضوء المسار التاريخي الفعلي للفكر السياسي الحديث منذ الثورة الفرنسية (روبسبيير) ومن قبلها الثورة الأميركية (جيفرسون). لقد ألف الفلاسفة وفقهاء القانون نظريات في غاية من الإحكام والصرامة، ولكن قليلة هي النظريات التي كان لها حظ القرآن مع التاريخ على النحو الذي كان لنظرية مكيافيلي، ولنظرية روسو، أو لنظرية ماركس. وهكذا، فعندما نكون قبالة العقد الاجتماعي تكون قبالة زوج «الحق والواقعة»، و«العقل والحدث»، والضروري والحادث» . .. إلخ. ولهذه القيمة المخصوصة على العقد الاجتماعي عدة أسباب سيسوق هذا التقديم بعضها.

ما هي المبادئ والطبائع التي بمقتضاها تكون الحكومة شرعية؟ هذا هو السؤال الرئيس الساري في كلية العقد الاجتماعي. فأما فكرة العقد أو العهد أو الميثاق في حد ذاتها فقديمة قدم النظريات السياسية والدينية والاقتصادية مهما كانت منزلتها باهتة وهامشية في العصور القديمة أو في العصور الوسطى. وأما فكرة الشرعية فارتبطت هي  أيضاً، منذ القدم، بفكرة الحق سواء كان الحق مسبقاً على القوة أو كانت القوة مسبقة على الحق. فبأي جديد، إذاً، جاءنا العقد الاجـتـمـاعـي لـجان جاك روسو، والحال أن فقهاء قانون مثل غـروســـوس (Grotius)، وفلاسفة مثل هوبز (Hobbes) ولوك  Locke)، قد سبقوه في نظرية الميثاق ؟
واقع الـحـال هو أن الـنـظـريـة الـروسـويـة قد وضعت حداً للابتسارات والاختزالات، بل وللتبسيطات الفقهية الحقوقية كذلك ، وأحلت محلها نظرية فلسفية في أشد الاعتياص الأنتروبولوجي الـوجـودي الحقوقي؛ اعتياص ما انفك يشير إليه النـابـهـون من شراحه. من ذلك أن الغالب في فقه القانون الكلاسيكي هو قياس الحق (القانون) بمقياس الوقائع. أما روسو فعكس القاعدة بالكلية، فقد جعل الوقائع هي ما يقاس بميزان الحق والقانون. ففي رأيه أن الحق ليس حقاً إلا لأنه خالص من شائبة التجربة. ذلك فالحق ومع قابل لأن ينطبق على كل تجربة ممكنة، أو قل يجب على كل تجربة ممكنة أن تعمل بمقتضى الحق. إن هذه النزعة المعيارية هي ما يجعل نظرية روسو تدحض ثلاث نظريات مقابلة في وقت واحد: أولاها نظرية القانون العرفي والتقليدي مما يستند إليه حكم الأسياد والملوك؛ وثانيتها نظرية مكيافيلي القائلة بأولوية القوة على الحق ؛ وثالثتها نظرية مونتسكيو القائلة بحق وضعي وتاريخي. ورأي روسو أن الواقعة لا تسوغ الحق كائناً ما كان هذا الحق. وهكذا بعد أن أضعف مكيافيلي من شوكة أصحاب الامتيازات، وقيد السلطان الأميري بأن ذلل «علم السياسة» جاعلاً منه سلاحاً للضعفاء من البشر، ركز روسو المعيار في مركز الدائرة التشريعية. هذا بالضبط ما يجعل الدستور بمثابة القيمة المقدسة فلا يمكن أن يمسسه تغيير ما أن عليه إرادة الشعب العامة، فينصاع إليه الجميع انصياعهم تجتمع لإراداتهـم الخاصة ما دام من صنع كل واحد منهم ومن صنعهم أجمعين. ومن ينصاع لإرادته يكون حرا إذ لا ينصاع لأحد بعينه.

ومن ذلك أيضاً أنه لما كان الحق سابقاً للوقائع وللمؤسسة الوضعية، جاز للناس أن يظنوا أن لهذا الحق قرابة ما بالحق الطبيعي أن إن لم يكن هو الحق الطبيعي بعينه. صحيح روسو لا ينفي وجود عناية ربانية، أو وجود حق طبيعي، ولكنه حق «ضعيف» ومحدود ولا يشتمل إلا على قلة قليلة من المبادئ والـقـوانـيـن منها، بالخصوص، حرية الفرد الطبيعي وقانون حفظ الذات. خلا ذلك فإن عالم الإنسان من صنع الإنسان. وها هنا يكمن منعطف ذو شأن في الفلسفة السياسية الحديثة : فما يذهب إليه روسو إنما هو اصطناعية المجتمع البشري اصطناعية كاملة. ويأتي هذا الطابع الاصطناعي للمجتمع المدني إما عاقبة مصادفات عمياء، وهو المنظور التاريخي الذي بلوره روسو في الخطاب في أصل التفاوت، أو نتيجة إرادة البشر الحرة والعاقلة، وهو المنظور الحقوقي الذي بلوره في العقد الاجتماعي. وفي هذا الكتاب الأخير تكون السياسة المعيارية إنشاء إنسانياً في جوهرها. وكل القيم الأخلاقية والحقوقية والسياسية نابعة من هذا الشرط الأول. وما هو اصطناعي يمكن إصلاحه وإعادة صنعه. لم يكتف روسو بالقطع مع الأرسطية ومع ترسباتها بأن نفي أن يكون المدني تواصلاً للطبيعي، بل أخذ اتجاهاً مخالفاً لاتجاه الحقوقيين الطبيعيين المحدثين بأن أحكم الربط بين العناصر المؤسسة للكائن الاصطناعي الذي هو المجتمع المدني : الإرادة العامة والعقد وثالثهما الصادر ضرورة عنهما، وهو السيادة؛ والمقصود به، على وجه الدقة، سيادة الشعب.

أحدث العناوين

المقاومة تستهدف مقر قيادة كتيبة ليمان الإسرائيلية

أعلنت المقاومة الإسلاميّة في لبنان، اليوم الخميس ‏استهداف ‏مقر قيادة كتيبة ليمان المستحدث ‏بالقذائف المدفعية.‏ متابعات-الخبر اليمني: وقالت المقاومة في بيان...

مقالات ذات صلة