هل سيحل التطبيع مشاكل سوريا أم سيكون النموذج السوداني الثاني

اخترنا لك

| د. حامد أبو العز*

من بين أكثر التحولات الجيوسياسية إثارة للقلق في المشهد السوري المعاصر، تبرز محاولات بعض الفاعلين الإقليميين والدوليين الدفع نحو مسار تطبيع العلاقات بين دمشق وتل أبيب، كخطوة ضمن مسار إعادة إنتاج النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط. هذه الخطوة، وإن بدت للوهلة الأولى انعكاسا لبراغماتية سياسية في زمن التحولات الكبرى، إلا أنها تحمل في طياتها بذور تفكيك مجتمعي خطير، قد لا يكون من السهل احتواؤه على المدى القريب أو البعيد.

التحركات الجارية خلف الكواليس، كما كشفت بعض المصادر الدبلوماسية، تؤكد أن لقاءات سرية جرت بالفعل في باكو بين مسؤولين سوريين مرتبطين بـ”الحكومة الحالية” وممثلين عن إسرائيل، في ظل زيارة رسمية قام بها الرئيس السوري أحمد الشرع إلى أذربيجان ولقائه بالرئيس إلهام علييف. هذه الاجتماعات، وإن لم تعلن رسميا، جاءت في سياق حملة تهيئة ممنهجة لتطبيع العلاقات بين دمشق وتل أبيب، تبدأ برسائل غير مباشرة وتفاهمات أمنية محدودة، وتنتهي بترتيبات سياسية علنية تسوّق تحت شعار “السلام الإقليمي” و”إنهاء العزلة”.

لكن الواقع السوري، بتاريخ صراعاته، وبنيته المجتمعية، ومركزيته في وجدان القومية العربية، يجعل من هذا المسار أكثر خطورة من أي وقت مضى. ففكرة التطبيع مع إسرائيل، في السياق السوري تحديدا، لا يمكن اختزالها في اتفاقيات دبلوماسية أو مصالح اقتصادية، بل تمس جوهر الهوية الوطنية والسيادية، المرتبطة عضويا بتحرير الجولان المحتل. الجولان ليس مجرد أرض محتلة، بل يمثل رمزا متجذرا في الوعي الجمعي السوري، وأي محاولة للمساومة عليه، ولو رمزية، ستُفهم كخيانة مكتملة الأركان.

الرهان على أن التطبيع مع إسرائيل قد يُنهي عزلة سوريا أو يفتح أبواب الدعم المالي والسياسي هو رهان مغشوش، وتُثبت الوقائع المعاصرة هشاشته. التجربة السودانية تمثل مثالا حيا على ذلك. فقد سعت واشنطن وتل أبيب لإقناع الخرطوم بأنّ الانخراط في مسار التطبيع سيفتح أبواب الدعم الدولي، ويعيد السودان إلى حضن “المجتمع الدولي”. لكن ما حصل كان العكس تماما. فبعد أشهر قليلة من هذه الوعود انفجرت الأزمة الداخلية السودانية إلى حرب أهلية شعواء، تمزّق فيها النسيج الاجتماعي، وانهارت فيها الدولة من الداخل، وتحوّلت المدن إلى ساحات معارك، في مشهد يختزل كل معاني الانهيار.

الرسالة المستخلصة من هذا النموذج واضحة وهي أنّ التطبيع ليس حلا لمشكلات الدول المأزومة، بل على العكس، غالبا ما يكون عاملا مضاعفا لأزماتها، لأنه يُنظر إليه داخليا كتنازل مجاني عن ثوابت الأمة السورية وثورتها، ويعزز من الانقسامات الداخلية بين القوى التي ترفضه وتلك التي تروّج له.

في الحالة السورية، تبدو الكلفة أعلى بكثير لإن محاولة الحكومة فتح قنوات خلفية مع إسرائيل يمثل خرقا فاضحا للمبادئ التي تأسست عليها الثورة، ويضعف موقعها أمام جمهورها أولا، ويعزز من خطاب التشكيك الدولي والعربي بها ثانيا.

إن محاولة تسويق التطبيع كضرورة براغماتية أو كـ”تكتيك سياسي” في مرحلة ما بعد الحرب يتجاهل أن الصراع العربي الإسرائيلي ليس مجرد نزاع حدودي، بل نزاع وجودي تتداخل فيه الاعتبارات الجغرافية بالعقائدية. وبالتالي، فإن اختزال المسألة إلى حسابات اقتصادية أو تفاهمات أمنية هو قصر نظر استراتيجي يفتقد لفهم السياق البنيوي للصراع.

والأخطر من كل ذلك، أن هذه المحاولات التطبيعية تأتي في وقت تعاني فيه سوريا من ضعف مؤسساتي، وغياب لرؤية وطنية جامعة، وهيمنة خارجية متعددة الأقطاب. وهذا يعني أن أية خطوة في هذا الاتجاه ستُقرأ داخليا على أنها خضوع لإملاءات الخارج، وليست خيارا سياديا نابعا من رؤية وطنية شاملة، مما يعمق فجوة الثقة بين السلطة والشعب، ويعيد إنتاج الأزمة بأشكال جديدة.

سوريا لا تحتاج إلى تطبيع هش مع عدو تاريخي، بقدر ما تحتاج إلى مصالحة داخلية، وإعادة ترميم نسيجها الاجتماعي، وتعزيز استقلال قرارها السياسي عن المحاور المتصارعة. والتطبيع، بعيدا عن كونه وصفة حل، هو في الحقيقة مدخل إلى مرحلة جديدة من الفوضى، ستُستخدم فيها الورقة الإسرائيلية كسلاح لشرعنة الهيمنة الخارجية وإعادة ترتيب الداخل على أسس مذهبية ومناطقية.

لهذا، فإن رفض التطبيع في السياق السوري ليس موقفا أيديولوجيا جامدا، بل موقف استراتيجي عقلاني، يدرك أن الحفاظ على السيادة الوطنية، ورفض التنازل عن الحقوق التاريخية، هما شرطا الاستقرار الحقيقي، وليس الركض وراء وعود هشة من قوة احتلال لم تلتزم يوما بأي اتفاق أو تعهد.

في موازاة الحديث عن التطبيع السوري مع إسرائيل ومحاولات إعادة هندسة التوازنات في المنطقة، تتكشّف تحركات لا تقل خطورة تتعلق بتوسّع الحضور الإماراتي على الأراضي السورية، وتحديدا من خلال مشروع إنشاء قاعدة عسكرية في مناطق الشمال، بدعوى المساهمة في إعادة الإعمار ومكافحة التطرف. غير أن هذا الخطاب المعلن يخفي وراءه أهدافا أكثر عمقا، ترتبط بإعادة صياغة المشهد الأمني والاستخباراتي في سوريا، وتكريس دور الإمارات كفاعل إقليمي في مناطق النفوذ المتنازع عليها. هذه القاعدة، بحسب ما يُروَّج رسميا، تهدف إلى تدريب عناصر من “هيئة تحرير الشام”، في خطوة يُراد منها إعادة تدوير تحت غطاء مكافحة التطرف. لكن الواقع يُظهر أن المهمة الحقيقية لهذه القاعدة ستكون ذات طابع استخباراتي في المقام الأول، تستهدف مراقبة التحركات التركية في سوريا، والتصدي لامتدادات التيار الإخواني، الذي تعتبره الإمارات تهديدا إيديولوجيا واستراتيجيا مستمرا.

من الناحية السورية الداخلية، فإن إدخال قوة إقليمية جديدة إلى هذا الحيز المتنازع عليه لن يكون دون تبعات. إذ أن قبول الحكومة السورية بهذا الوجود، ولو ضمن صفقة سياسية، يعمق من مشهد التعدد في مراكز القرار، ويفتح الباب أمام إعادة إنتاج نموذج النفوذ المُجزأ، حيث تملك كل دولة أجنبية حصة من السيادة السورية، وتتحول البلاد إلى فسيفساء من مناطق النفوذ المتشابكة.

ما هو واضح حتى اللحظة أن سوريا، التي كانت لعقود ميدان صراع إيديولوجي بين القومية والبعث والإسلام السياسي، تحولت اليوم إلى ساحة تنافس بين المشاريع الإقليمية، تتقاطع فيها الطموحات الدولية والحل النهائي يمكن في الوحدة الداخلية بين الحكومة والشعب ورفض التطبيع والحفاظ على استقلال البلاد.

*باحث السياسة العامة والفلسفة السياسية

كاتب فلسطيني

أحدث العناوين

أزمة الردع الإسرائيلية أمام اليمن.. البحث عن شركاء لتقاسم أعباء الفشل

ضرار الطيب: فيما تعكس الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على لبنان وغزة الحرص على مواصلة "العمل" العسكري المباشر ضد الجبهتين برغم اتفاقات...

مقالات ذات صلة