خطة ترامب – نتنياهو: استسلام مقنّع وتصفية ممنهجة للقضية الفلسطينية

اخترنا لك

| د. معين الرفاعي

قراءة متأنّية في ما أُعلن أخيراً عن خطة وقف العدوان على غزة، التي كشف عنها البيت الأبيض بالتزامن مع اجتماع دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو في المكتب البيضاوي، تقود إلى نتيجة واحدة لا لبس فيها: ما جرى ليس اتفاقاً إقليمياً لوقف الحرب كما رُوّج له، بل هو خطة أميركية – إسرائيلية صمّمت خصّيصاً لتحقيق الأهداف التي فشل الاحتلال في إنجازها على الأرض، بعد عامين متواصلين من المجازر وحرب الإبادة ضد سكّان القطاع. والقراءة المتعمّقة لبنود الخطة تكشف أنها ليست سوى امتداد لمشروع «الشرق الأوسط الجديد» و«إسرائيل الكبرى»، بصياغة أكثر فجاجة ووضوحاً.

فالخطة طُرحت كما لو أنها معاهدة استسلام، على المقاومة القبول بها دون أي حق بالاعتراض أو التعديل أو حتى طلب الإيضاحات. نصوصها الصريحة تتحدّث عن نزع سلاح المقاومة بالكامل، وتشتيت مقاتليها، وتدمير بنيتها التحتية بما في ذلك الأنفاق ومصانع السلاح. وفي البعد السياسي، جرى الإعلان أن إدارة غزة ستكون بيد الإدارة الأميركية مباشرة، عبر ما سُمّي بـ«مجلس السلام» الذي يترأسه ترامب شخصياً، ويُشكّل لجنة من تكنوقراط فلسطينيين غير سياسيين، فيما يُسند إلى توني بلير دور محوري في هندسة هذا الإطار. الأكثر استفزازاً أنّ الخطّة تتعامل مع سكّان غزة باعتبارهم بحاجة إلى «إعادة تأهيل» و«نزع التطرّف»، وكأنهم متّهمون جماعياً بالانحراف عن المسار الطبيعي للحياة.

وفيما تسهب الخطّة في تفاصيل تضمن لإسرائيل الإفراج عن أسراها خلال 72 ساعة، وتأمين احتياجاتها الأمنيّة أثناء الانسحاب وما بعده، فإنها تكاد تتجاهل الحقوق الأساسية لسكّان غزة. فهي لا تقدّم ضمانات فعليّة لعودة المهجّرين إلى بيوتهم، ولا تحدّد جدولاً زمنياً لإعادة الإعمار أو معالجة جرحى العدوان ومبتوري الأطراف، مكتفية بوعود عامة ومبهمة.

وما ورد من التزامات إنسانية لا يتجاوز إدخال 600 شاحنة مساعدات غذائية وفق اتفاق 19 كانون الثاني 2025، في تكريس لاستمرار الحصار بشكل مقنّع. الأسوأ أنّ الخطّة تتحدّث عن «العفو» عن المقاومين الذين يضعون السلاح، وهو تعبير يشي بأنهم مجرمون لا أصحاب حقّ يقاومون احتلالاً دموياً.
الخطّة لا تكتفي بذلك، بل تمنع أي مؤسّسة دولية على صلة بالفلسطينيين من الإشراف على توزيع المساعدات، في تلميح مباشر إلى استبعاد وكالة «الأونروا» بعد الحملات الإسرائيلية ضدّها.

إنّ أحد أهداف الخطّة هو دفع المقاومة إلى رفضها علناً، ليُلقى عليها اللوم، وتُحمّل مسؤولية إضاعة «الفرصة الأخيرة للسلام»، في محاولة يائسة لإنقاذ صورة الكيان المتدهورة على المستوى الدولي

وفي أحد البنود، يجري الحديث عن إعادة بناء غزة بالتعاون مع مؤسّسات دولية متخصّصة في إنشاء مدن «شرق أوسطية حديثة»، وهو ما يشي بوضوح بربط القطاع بمشروع «Great Trust» الذي صاغه بلير وكوشنر سابقاً، ويحوّل غزة إلى سوق استثمارية للشركات الكبرى تحت رعاية ترامب وشركائه. هذا البعد الاقتصادي ليس سوى الوجه الآخر للخطة السياسية والأمنية، بما يعني إخضاع غزة بالكامل لمنظومة الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية.

أمّا على الصعيد الفلسطيني الداخلي، فإنّ الخطّة لا تعترف بالسلطة إلا في إطار التزامات وشروط، قد تتيح لاحقاً مجرّد النقاش حول دولة فلسطينية كـ«مطلب» لا كحقّ مشروع، دون أي التزام بإنجاز هذا المسار. حتى الحديث عن حوار فلسطيني – إسرائيلي يوضع في إطار «اتفاقات أبراهام»، دون الإشارة إلى مفاوضات مباشرة أو التزامات إسرائيلية نحو السلطة. وهو ما يؤكّد أنّ الخطّة لا تقدّم أي أفق حقيقي للحلّ، بل تسعى إلى تصفية تدريجية للقضية الفلسطينية.

الأخطر أنّ هذه الصيغة جرى تسويقها عبر حشد ثماني دول عربية وإسلامية في المشهد، ما دفع نتنياهو إلى التصريح بسعادة: «لقد أرادت حماس أن تحاصرنا دولياً، فحاصرناها عربياً وإسلامياً». هنا يكمن أحد أبعاد الخطّة الخبيثة، فهي محاولة لتطويق المقاومة من محيطها العربي والإسلامي بعد أن فشلت محاولات كسرها عسكرياً وسياسياً.

لا شكّ أنّ ما جرى إعلانه يشكّل ضغطاً إعلامياً واستعراضياً كبيراً على المقاومة، ولكن جوهره يظلّ بعيداً من الفعالية الواقعية. فالإدارة الأميركية، ومعها إسرائيل، لم تستطع خلال عامين كاملين من العدوان أن تحقّق أيّاً من أهدافها المعلنة، ولم تنجح في كسر صمود غزة ولا في تحييد المقاومة. ومن هنا، فإنّ أحد أهداف الخطّة هو دفع المقاومة إلى رفضها علناً، ليُلقى عليها اللوم، وتُحمّل مسؤولية إضاعة «الفرصة الأخيرة للسلام»، في محاولة يائسة لإنقاذ صورة الكيان المتدهورة على المستوى الدولي.

إنّ ما يجري ليس سوى فصل جديد من المشروع الأميركي – الإسرائيلي لإعادة تشكيل المنطقة، وما يُعرض على الفلسطينيين اليوم هو استسلام مقنّع وتصفية منهجية لقضيتهم، مع تهديد واضح بأن تداعيات هذه الخطة لن تتوقف عند حدود غزة أو الضفة والقدس، بل ستطال دولاً أخرى في الإقليم، من لبنان وسوريا إلى إيران.

في مواجهة هذا المخطط، يبقى صمود المقاومة وتمسّكها بموقفها الثابت هو الحصن الأخير، لا لحماية غزة وحدها، بل للحفاظ على جوهر القضية الفلسطينية ومنع انزلاق المنطقة برمّتها إلى مرحلة جديدة من الاستعمار المقنّع تحت شعارات «السلام» و«إعادة الإعمار».

أحدث العناوين

تناول نصف ملعقة زيت زيتون يقلل من خطر فقدان الذاكرة

أظهرت الدراسات أن  تناول نصف ملعقة صغيرة من زيت الزيتون مع كوب من الماء الدافئ يوميًّا يحمي الدماغ ويقلل...

مقالات ذات صلة