| خالد شحام
تخيل أنك تركب الحافلةَ واقفا، وأثناء سيرها ولسبب مفاجىء اضطر السائق إلى استعمال المكابح بصورة قوية، ما الذي سوف يحدث لك ولكل الواقفين أمثالك في هذه الحافلة ؟
سوف تجد بأنك تندفع نحو الامام في الوقت الذي توقفت فيه الحافلة وقد تصطدم بأي شيء أمامك وقد يتم قذفك من الزجاج، يُفَسَّر هذا الأمر في الفيزياء تحت قانون القصور الذاتي للجسم ، وهو قانون يقول باختصار بأن أي جسم ساكن أو متحرك لا يمكنه تغيير حالته السكونية أو الحركية دون وجود قوة ترغمه على هذا التغيير، وهذا القانون المادي له نظيره في المجالات الإنسانية غير المادية ، ففي مجال الحرب النفسية التي تلعب بقوة في المنطقة هذه الفترة ينتشر قانون القصور الذاتي للخوف على مساحات واسعة ، ويقول هذا القانون هنا بأي جسم خائف أو مرعوب يبقى كذلك ما لم تطرأ قوة تعيد له الثقة بنفسه ، والقصور الذاتي للخوف أيها السادة يعني بأنك تبقى مرعوبا مما أقترفه عدوك من جرائم واعتداءات في الفترة الماضية بحيث تتحول هذه الى هاجسٍ مَرَضي وانتظارٍ مقعدٍ لمصير استعبادي محتوم ، ولهذا السبب تسود الأسئلة الخائفة فوق السحاب بمعية كل صباح في كامل المنطقة البائسة : هل سيعود العدوان على غزة ؟ هل نحن أمام خديعة من ألاعيب ترامب – نتانياهو؟ متى موعد الضربة القادمة ولمن؟
تحت ظلال هذا الخوف تُنسى الحقوق وتنكمش المطالبات المشروعة ويُلقى شعب غزة وهو يعاني الويلات بعد تكشف حجم الجرائم في غزة ، و يعود إلينا الأسرى الأبطال وقد فقدوا معالمهم ولم يعودوا يتعرفون على أبنائهم ، ويعود إلينا الأسرى الشهداء محروقين معذبين مهانين كرسائل مضافة للتخويف ، وتنكمش حقوقنا المشروعة إلى مجرد عدد محدد من شاحنات المساعدات وفتح المعابر وفضلا أمريكيا بإيقاف المجازر ضد شعبنا الذي تحمل ما لا يمكن تخيله ، لقد تحول القصور الذاتي للخوف إلى منتجات وسلع استهلاكية تسود المنطقة وتباع بالمفرق والجملة على الأنظمة الراكعة المرعوبة التي لم تعد تتجرأ حتى على ذكر إسم الجاني والمجرم ، لقد تحول الخوف إلى أسئلة شبحية تظهر في الليل ومع كل إطلالة لترامب غير المتزن من باب طائرته ، خوفٌ حول احتمالية عودة العدوان على غزة والتلويح بورقة الغارت والقصف والقتل من جديد ، خوف من قطع المساعدات وعودة التجويع ، خوف من موعد الضربة المستحقة للبنان وأخرى لإيران ولليمن ، خوف من ابتلاع أراضي الضفة الغربية وأجزاء من سيناء وغور الأردن ولبنان وسوريا وربما أبعد من ذلك ، خوف من مصيرنا كافراد وجماعات بعد عمليات الاستسلام الكبرى التي قدمها القادة العرب في حملات الشرق والغرب .
في ضمير الأسبوع الماضي قدم الرئيس الملهم ترامب مسرحية مؤتمر السلام في المنطقة التي تم بموجبها إيقاف العمليات العسكرية الإجرامية في غزة بحدها الأكبر ، وعشنا أسبوعا كاملا من الأمجاد والسعادة والاحتفالات الرئاسية الترامبية بتحريرعشرين أسيرا صهيونيا وتم نسيان شعبٍ كامل يتجرع الويلات كل لحظة ، ومن هنا يأتي السؤال البسيط : ما هو نوع السلام الذي يأتي من الزمن الذي تتحكم فيه بمصير كل العالم طبقة من رجال الأعمال والأثرياء الذي لا يعرفون سياسة ولا أخلاقا ولا وازعا ولا حتى يمتلكون الحد الأقل من الذكاء الذي يمكنهم من الضحك علينا بشكل مقنع ؟
نحن أيها السادة تحت تأثير القصور الذاتي للخوف الذي يشل العقل عن التفكير والذي أصبح محور الأحاديث والتحليلات والتفسيرات ، و من أجل الحصول على الترياق المضاد للخوف الذي يغشى المنطقة يتوجب علينا استيعاب الحقائق الأساسية الآتية التي تمثل أعمدة الارتكاز في السياسات الأمريكية ، والتي لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها :
-
لا يوجد شيء اسمه السلام في العقيدة الأمريكية لأنها عقيدة صهيونية الأصل ، مفهوم السلام يعني بالضبط إذلال الطرف الآخر أو تسليمه وتبعيته المطلقة أو إبادته إذا تطلب الأمر ، إن مفهوم السلام ذي الجوهر الحقيقي يتضمن ثلاثة عناصر : العقيدة المؤمنة بحقوق الآخر بالعيش – قوة كبيرة لحماية هذا الاعتقاد – طرف شريك لعملية السلام يحمل نفس الدوافع وذات القيم .
-
لا يوجد شيء اسمه الحلفاء أو الأصدقاء أو الشركاء في الضمير الأمريكي ، هذه المصطلحات هي تغطيات فنية لمفهوم الأذيال أو العبيد الذين يتوجب عليهم فعل كل ما يلزم لإرضاء السيادة الأمريكية وإشباع حاجاتها ومتطلباتها مهمـا تطلب الأمر شكلا ونوعا وفعلا .
-
لا شيء يمكنه تغيير واقع السياسات الأمريكية في أية بقعة في هذا العالم زمانا ومكانا سوى لغة القوة فقط ، والقوة هنا ليس شرطا أن تكون بنفس الحجم أو القدر ولكن يكفي أن تكون جرعة موجهة في الزمان والمكان الصحيح لتفعل فعلها ، تماما كما حصل لهم في العراق وافغانستان وعملية المارينز في بيروت وفي مقاديشو وغيرها .
حيال هذه الحقائق البسيطة يجب أن نفهم أن سلوك الإدارة الأمريكية حيال غزة ليس مِنَّةً ولا فضلا ولا كرما من اخلاق ترامب ، إنه سلوك مدفوع بفعل قوة موجهة من الداخل والخارج الصهيوني لإنقاذ ما تبقى من عمر لهذه العصابة قبل القضاء عليها من داخلها ومن أفرادها ، إن مجموعة القوى الآتية والتي تستحق الشكر والثناء هي التي تقف وراء المؤتمر الترامبي وزيارته للكنيست ودفعه لإيقاف العدوان ، نحن أمام مشهد ارتباكي للعدو وليس مشهد قوة أو ذكاء او استباق سياسي :
-
صمود الشعب الفلسطيني في غزة ، وأداء المقاومة وحسن إدارتها للمعارك وجلسات المفاوضات وملف حجز الأسرى طيلة سنتين ، لم تستسلم هذه المقاومة أمام اعتى قوى الشر، لقد حققت معجزات مستعصية من احتمال الضربات وتكبيد العدو خسائر فادحة وإفشال أهدافه بشكل محرج .
-
يمن البطولة والكرامة ، بقيادته وشعبه وعملياته في البحر الأحمر وخطة التصعيد التي انتهجها للوقوف مع غزة دون توقف أو ندم أو تباطؤ رغما عن الخسائر والشهداء والضربات التي لحقت به ، إن شعب فلسطين وكل شعوب العرب الحرة مدينة لليمن بهذه الوقفات البطولية والعربية والتي تجسد حقيقة الترابط العربي الإسلامي في مكانها الصحيح ، إن وقفة اليمن أحدثت تداعيات هائلة في خنق النشاط الصهيوني والأمريكي ، لا يمكن أن ننسى دور لبنان وحزب الله ووقفاته التي قدم فيها خيرة قياداته وأبناء شعبه واحتمل العدوان الصهيوني .
-
الانتفاضات الشعبية الغربية ضد الصهيونية وتصاعد حملات العداء للاسرائيليين والداعمين لهم ، تسجل اسبانيا وايطاليا وكولومبيا وهولندا وايرلندا صفحات إنسانية مشرقة في أكبر تظاهرات داعمة مؤيدة للقضية الفلسطينية وعدالتها ، لقد وصلت التظاهرات الحد المقلق للأنظمة الغربية العميلة للصهيونية الى الحد الذي تطلب قرع جرس الإنذار بضرورة انهاء هذا العدوان على غزة .
-
اهتزاز الدولار وتهديد الاقتصاد الأمريكي بمخاطر واسعة أمام دعم الحروب في أوكرانيا و الشرق الأوسط ، تصاعد الصوت الداخلي في الولايات المتحدة من استمرار المغامرات وإشعال الحروب وخضوع البلاد لقوى خارجية .