خطة ترامب الثانية لطبخ الشرق الأوسط على مهل

اخترنا لك

| د. ميساء المصري

نترقب، نشاهد، وننتظر ، في هذا الركن الكوني العجيب، حيث تتحول القضايا المصيرية إلى فقرات ترفيهية في نشرة التاسعة، وتصبح المجازر مجرد خلفية صوتية لخطة سلام جديدة، بعد خروج دونالد ترامب نزيل البيت الأبيض العائد من تقاعده القصير كأنه كان في إجازة صيفية  و فاجئ العالم بخطة سلام جديدة في غزة، قبل أن يلتفت، بحركة دراماتيكية محسوبة، نحو العرب ويهمس في آذانهم ، والآن دوركم.

ترامب، الذي لا يفرّق بين بيت لحم وبيتزا هت، ولا بين حق العودة وحق الحجز في ملاعب الغولف المفضلة لديه، جاء إلى منطقتنا كأنه بائع متجول يعرض بضاعته ،تفضلوا ، خطة سلام، صفقة إعمار، قمة شرم الشيخ، وهدنة مكتوبة على ورق كرتون ملوّن. وبينما يُرفع العلم الأبيض فوق غزة، يُرفع العلم الأزرق في العواصم العربية، إيذانًا بجولة جديدة من مرحلة التطبيع السلس أو ما يُعرف سياسيًا بـغسيل دماء بصفقات اقتصادية وغيرها.

المفارقة الساخرة أن ترامب لم يُخفِ نواياه هذه المرة. قالها جهارًا، بصوته الإستعراضي المعروف الذي يشبه مزيجًا من صوت بوق مكسور وصراخ في مؤتمر عقاري(هذا هو الوقت المناسب لإعادة تشكيل المنطقة، بطريقة جميلة جدًا، لم يحدث مثلها من قبل. سيكون هناك سلام، وفرص عمل، وربما منتجعات في غزة. منتجعات جميلة جدًا ) نعم ..منتجعات؟ في غزة؟ نعم. لا عجب، فالرجل يرى في كل أرض مدمّرة فرصة لبناء كازينو.

لكن ما لم يُعلن رسميًا بعد، وإن كان يُطبخ على نار سياسية هادئة، هو ما يُمكن تسميته بكل سخرية العالم  بـخطة ما بعد سلام غزة، أو كما يحب المستشارون في طاقم ترامب تسميتها داخليًا(التطبيع بلس +)،و الخطة ببساطة تقول، إذا كنّا قد طبعنا مع الإمارات والبحرين والمغرب في موسم صفقة القرن، فلماذا لا نطلق (صفقة القرن 2) وتشمل بقية القائمة؟ (السودان؟ في الجيب). و (الجزائر؟ قيد التسخين).  و (العراق؟ ننتظر اللحظة المناسبة). و لبنان؟ نحتاج فقط إلى أن نغيّر قناة البث.

المنطق الذي يحكم هذه الجولة الثانية من التطبيع ليس منطق المصالح القومية أو الإرادة الشعبية، بل منطق العرض والطلب (خذ وهات ). ترامب يُقدّم وعدًا بالإعمار مقابل السلام حتى لو في المريخ ، وإسرائيل تقدّم أمنًا مشروطًا بفتح سفارات، والدول العربية تلوّح بورقة (السيادة) كمن يلوّح بورقة يانصيب خاسرة، لكنها ملوّنة زاهية تجلب الأنظار.

وفي وسط هذا السيرك السياسي، نرى قادة عربًا يصطفون واحدًا تلو الآخر إلتقطوا الصور مع (الإمبراطور)، كما بات يُلقب في الإعلام الإسرائيلي، حاملين ملفات استثمارية ومشاريع نقل، لكن بلا ورقة واحدة عن حقوق الفلسطينيين…و فلسطين، تلك التي كانت سابقًا مفتاح أي تطبيع، أصبحت الآن فقرة جانبية يُشكر من يتذكّرها بخجل في نهاية الخطاب.

الأدهى أن ترامب، بحسه التجاري الفطري، لا يطرح نفسه كوسيط سلام فقط، بل كمدير إقليمي جديد للمنطقة، يقرر من يطبع، ومتى، وكيف. وهل تعلمون أن الخطة القادمة تتضمن تشكيل مجلس عربي إسرائيلي ، بقيادة أمريكية، مع وعد بتوزيع عوائد حسب درجة الإلتزام بالتطبيع. كلما زادت حرارة العلاقة مع تل أبيب، زاد الدعم. هل تريد محطة كهرباء؟ افتح خط طيران. هل تحلم بميناء؟ شارك في تدريب أمني مشترك. أما من يرفض؟ فله نصيب من العقوبات أو وصمة الرجعية السياسية أو حتى ربما سحب الكرسي .

ومن سخرية القدر، أن ترامب، الذي تسبّب بإنسحاب بلاده من اتفاقات المناخ ومنظمات الصحة، بات الآن حريصًا على بناء شرق أوسط جديد، ليس حبًا في الشعوب، بل حبًا في الصفقات والعطايا. صفقات تصب في حسابات عائلته أولًا، ومشاريعه العقارية ثانيًا، وإرثه الترمبي السياسي ثالثًا، أما الشعوب؟ فهي مجرّد خلفية صوتية.

هكذا إذاً، نرى ترامب يتنقل من (السلام مقابل التطبيع) إلى (التطبيع مقابل التطبيع)، ومن خطة سياسية إلى مسرحية كوميدية تراجيدية. وبينما يُعلن أن الحرب انتهت، فإن كثيرين يعلمون أنها لن تنتهي و أن ما بدأ الآن هو حرب أخرى، حرب على الوعي، على الكرامة، على التاريخ نفسه.

في النهاية، ليس في الأمر مفاجأة.نعلم جيدا ان ترامب لم يأتِ ليحل النزاع، بل ليعيد تغليفه بورق هدايا. الخطر الحقيقي ليس في صوته الأجش، بل في الأيادي العربية التي تصفق له، بعيون مغمضة، وآذان لا تسمع سوى ضجيج الصفقات. هذا هو (سلام ما بعد السلام)، ويا سلام حيث تتسلل إسرائيل إلى غرف القرار العربي من نوافذ التطبيع الخلفية.

ترى، هل سنشهد قريبًا منتدى الفلافل الإبراهيمية أقصد الاتفاقيات الابراهيمية ؟؟

أو قمة السياحة الروحية المشتركة بين تل أبيب والرباط وبغداد ؟

كل شيء ممكن… ما دام ترامب يملك القلم والدولار …

كاتبة سياسية من الأردن

أحدث العناوين

America reveals details of a new base on Yemen’s western coast and its objective

The US revealed, on Monday, details of a new base on Yemen's western coast.Exclusive – Al-Khabar Al-Yemeni:The American "Associated...

مقالات ذات صلة