خالد شحام|
في الوقت الذي يَمُنُّ علينا فيه ترامب وزمرته (بالضغط) على نتانياهو المجرم لإيقاف الحرب ويعلن بأنه لن يسمح بمحاولات ضم الضفة الغربية لجسم الكيان الصهيوني ، تُوضع غزةُ على طاولة العمليات في مستشفى بنيامين الاسرائيلي ويتحوط بهذه الطاولة رجل السلام ترامب ورجل السلام الأكثرمنه حرصا نتانياهو، وعصابة مترامية الأطراف تمتد من القارة الغربية الى العربية ، فيما يقف على بوابة هذا المستشفى مجلس الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي ومحكمة العدل الدولية بانتظار لحظة الإجهاز، كل هؤلاء يحيطون بغزة المنهكة، الممزقة، الجريحة، الملقاة على الطاولة المذكورة ليس لأجل علاج جراحها أو إيقاف ألم الإنسانية التي سُرِقت منها ، بل هم يجتمعون لتقديم حزمة مساعدات خاصة تتضمن إفقارا جماعيا، حربا أهلية ، وتضييقا على الاعمار وسُبل الحياة الأولية ، تفكيك بنية المقاومة ووضعها تحت رحمة قوات عربية منزوعة العروبة والهوية والشفقة ، تعيين ساديين في حكم وادارة غزة وشوؤنها ، إنها حزمة مساعدات الكيان المفصلة تفصيلا لإلحاق أكبر أذى وأكبر ضرر بهذه المدينة التي تَحَّدت الطاغوت الأكبر .
مجلس الأمن العظيم توصل أخيرا الى قرارفـذ بمطالبة الكيان الإجرامي بالسماح بدخول المساعدات دون توقف وشدد بقوة على ضرورة فتح المعابر والاستمرار في السلام ، محكمة العدل الدولية العظيمة توصلت أخيرا وبعد سنتين من القتل والتجويع والتدمير الممنهج في كل جزء من الحياة وقتل أكثر من ثمانين وربما مائة ألف مواطن فلسطيني إلى قرار زلزل الكيان الصهيوني بأنه يتوجب على السلطات الاسرائيلية منع التجويع وعدم استخدامه كسلاح حرب ، ترامبو العظيم ارسل “دي جي” فانس جليس الأطفال وروبيو وويتكوف ، الوجهين الرماديين في مهمة عديمة الطعم والنكهة لتأكيد دعمه المطلق لجيشه العبري وليعلن لكل العالم بأن أي وقف لاطلاق النار مع اسرائيل انما هو خدعة ثابتة المعالم ولا داعي لقول ذلك ايها الاغبياء ، نعم عاشت الديموقراطية الغربية وعاشت محاكمكم وعاشت نزاهتكم وانسانيتكم يا أهل الشرق والغرب .
تتوالى على مسامعنا تسريبات وأخبار حول خطط ونوايا حول غزة ، ولا أعرف بالضبط رقم الخطة أو السيناريو الذي تفتق به العقل الأمريكي أو الاسرائيلي أو العربي حول غزة ومرحلة ” ما بعد حماس ” ، لأننا بصراحة لم نعد قادرين على إحصاء عدد المحاولات والدوائر المحاكة حول غزة ، وأعتقد بأننا في نهاية المطاف بحاجة لأرشفة كل هذه المؤامرات وفنون الخطط التي تم حبكها منذ بداية هذا العدوان قبل سنتين ، قبل يومين تطلع الصحف بآخر محاولة تحمل الرقم خمسة ألاف وثلاثمائة حول غزة والتي تقضي بفصلها الى شطرين ، “حمساوي ” مؤهل للحجز والعذاب ، وآخر اسرائيلي مؤهل للنمو والحياة ، وثمة أخبار عن سيناريو قطري – تركي ، وتسريب آخر يتكلم عن سيناريو خليجي –مصري ، وتسريب آخر يتكلم عن قوات دولية وعربية وفرق تدخل مدربة ومؤهلة مصريا ، وتسريب خامس يتكلم عن استدعاء قرود وغيلان لإدارة غزة ، كل هؤلاء الأبرياء يريدون العمل بإنسانية وشفقة ومحبة لغزة ولآهل غزة ولا يريدون لها إلا السلام والعيش في وئام ، ولكن بشرط أن يكون ذلك ضمن جدول المواصفات الذي كتبه وقرره المجرم نتانياهو ، والمجنون السمين كريه الرائحة الذي يطالب بايقاف المساعدات عن غزة وعودة المجازر فورا .
الحقيقة سادتي أننا نعيش في عالم لا يليق به إلا اسم عالم ما بعد سقوط الأخلاق ، المشهد العالمي ليس بأقل من كارثي وكئيب وحزين بنفس الوقت ، طيلة السنوات الماضية كان من الواضح أن النظام العالمي الصهيوني يضع خططا تبدو قوية ومضمونة وذات نتائج محسوبة بدقة عالية ، تم حساب كل شيء فيها بحسابات رقمية ذكية ، هذه الحسابات التي كانت موضوعة للاقتصاد العالمي وتحجيم الحضور الصيني بكل أبعاده ، وتحييد روسيا والسعي نحو تحقيق فكرة المليار الذهبي بمطلق معانيها ، أصبحت اليوم مجرد أحلام بعيدة المنال خاصةً بعد العدوان على غزة وانكشاف ضعف النظام العالمي وسقوط أسطورته على يد المقاومة الفلسطينية والعربية بالمجمل ، ربما في سنوات سابقة كنا نتكلم عن خطط مرسومة خمسية أو عشرية ومؤامرات ضخمة المقياس ، لكننا الان وفي هذه المرحلة ما بعد ايقاف اطلاق النار في غزة واللعب الذي يجري بين روسيا والحلف الأطلسي ، أتحدى أحدا إذا كان قادرا على صياغة رؤية دقيقة للأحداث وتفاعلاتها ، هل تعرفون لماذا ؟ لأنه من الواضح أنه لم يعد لدينا حتى متآمرين جيدين ، أومخططين جيدين ، ولا منفذين مخلصين ولا حتى جنودا أوفياء لقضيةٍ أو وطنٍ أو أمة أو أي ايديولوجيا ، نحن نعاصر مرحلة من الفراغ الفكري العبثي والذي يحاول جاهدا تقمص ايحاءات دينية أو قومية لتثبيت أركانه وما هو بقادر ، لدينا رئيس أمريكي نموذجي لهذه الحالة ، لا يعرف ماذا يريد ولا كل الفريق المعتوه المصاحب لحملته ، ولدينا مثال نموذجي آخر في فرنسا وبريطانيا وغيرها ، لدينا حفنة من المجرمين الموزعين في أرجاء العالم تحت مسميات محسنة الشكل والمعنى غير مؤهلين لأي شيء سوى صناعة الفساد والخراب الأخلاقي والإنساني وتعزيز سقوط البشر في الهاوية ، لقد ذابت كل المراجع الفكرية التي ربما كانت تحمل قيمةً أو شيئا من خير وتلاشت المعاني الدينية والقومية وما بقي هي أطلال الخرابات الاسرائيلية التي ملأت العالم بالانحلال والالحاد والتفكك الاجتماعي والميوعة الهوياتية وذوبان المعالم القيادية ، حتى أن الأعداء فقدوا مكانة العدو المثالي الذي يمكن التفكير به ، وتحولوا الى قاطعي طرق ومجرمين لا يأمنون على أنفسهم حتى من انفسهم .
لم يعد من المهم ماذا سيجري بعد الاتفاق في غزة لأنها أصبحت منارةً شديدة الإضاءة غير قابلة للانطفاء ، ولم يعد من المهم التفكير بمصير لبنان اذا رفض حزب الله نزع سلاحه ، لم يعد الأمر منوطا بقبول ايران الخضوع للحجم والمقاس الذي تطالب به العصابة الغربية والأمريكية والاسرائيلية ، لم يعد السودان وما يجري فيه شيئا يستدعي الرحمة الإنسانية ، لم يعد يهم ما يجري بين لافروف وويتكوف ، ولا خطط ماركو روبيو في حربه ضد فنزويلا وكولومبيا ، لم تعد تهم حرب الضرائب التي يخوضها الرئيس ترامب ، لقد أصبح الأمر الأهم هو خلاص هذا العالم بكله ، خلاص هذه العدالة الغائبة عن كل تفصيل وكل موقع ، و خلاص هذا الحق المسجون في معتقلات أزلية في بلاد العجم وبلاد العرب لشعوب بأكملها تعيش في أقفاص غير مرئية وسحابة من العذاب من المولد حتى الموت .
لن يهدأ هذا العالم ولن نشعر بأي نوع من السعادة الحقيقية قبل احقاق العدالة بخطوطها العريضة وايقاف قبضة المجرمين الأثرياء الذين يديرون قرص الروليت بقطر العالم ، هنالك شر كبير يحكمنا جميعا ، نشعر به ، ونراه ونتنفس زفراته دون أن نحتاج من يخبرنا ويحلل لنا ويقدم لنا الاحصاءات ، هنالك قسوةٌ مفرطة وأرواح محترقة في الجحيم ومتحالفة مع الشيطان بنفسه تسوق البشرية الى هولوكوست جماعي عالمي ولن تهدأ ولا يقر لها بال حتى ترى النار مشتعلة في كل المدن ، كتاب الجريمة هو المرجع الوحيد الذي يضع قوانين هذا العالم والمسارات التي نراها تحدث فيه .
إذاً أيها المتفرجون أين المفر ؟ وأين الهروب ؟ وما الذي سيكون ومن الذي سيبقى أو ينتصر ؟
إن الشيء الذي انتصر في غزة وثبت في هذه المعركة هو نموذج واضح ومتغير لا يمكن الاستهانة به ، والشيء الذي انتصر في غزة هو القوة الأخلاقية للمقاومة وليس السلاح ، القوة الأخلاقية التي صنعت انسانا رحيما بالأسرى ، وانسانا مستعدا للشهادة في سبيل ما يؤمن به ، وهذه القوة هي التي جندت كل البشرية لتقف مع غزة بالمطلق وتنقلب على الكيان ، الشيء الذي انتصر في المنطقة العربية ليس الصواريخ ، بل هو القوة الأخلاقية التي أوجدها اليمن وسمحت له برجم الصواريخ كي يتضامن العربي الذي يبعد أكثر من ألفي كيلومتر مع أخيه الإنسان العربي ، بينما انهزم كل الحلف الذي وقف مع الكيان ولا يزال يلعق حذاءه خضوعا وسقوطا .
هذا العالم لن يشهد أي نوع من السلام ضمن مفهوم وقف اطلاق النار بالمعنى الاسرائيلي الذي يعني استمرار الاعتداء على الضحية فيما هي مقيدة أمام الرأي العام بأدب الاتفاقيات التي لا قيمة لها ، هذا العالم لن يشهد أي نوع من السلام ما دام هؤلاء المستوطنين المجرمين القذرين يعتدون على المرأة الفلسطينية ويحرقون بيتا أو سيارةً أو بيارةً فلسطينية ، هذا العالم لن يهنأ بأي نوع من السلام مادام السلام يبيح لقذرمثل بن زفير بتوزيع البنادق الاتوماتيكية على قطعان وحوشه ويقول لهم بأن الله يبارك من يأتيني برأسٍ فلسطيني ، هذا العالم لن يشهد السلام ما دام جند وساسة الكيان يؤمنون بأن أمنهم القومي يملي عليهم قصف لبنان وحرق العالم العربي ومنع دخول الدواء والغذاء والعلاج للأطفال والجرحى ، هذا العالم لن يشهد السلام ما دام ترامب الذي تتغير اصداراته في كل موقف وكل موقع اجتماع يعقده ينحاز بالمطلق حيث الهوى الاستعماري الانتهازي والجريمة الصهيونية .
كل الخطط المقررة لغزة وما بعد المرحلة الأولى من الاتفاق لا تبشر إلا بالظلم والاجحاف واستمرار العدوان بصيغ محسنة ، لكنها كلها ذاهبة إلى خسارة مبينة ، ان القادم على هذا العالم ايها السادة هو المعركة الكبرى التي لا بد منها للخلاص بكل صوره واشكاله بين هذا الباطل المتشرب في كل تفصيل وبين هذا الحق المختبىء بين الشقوق من سطوة الباطل ، لكنه على قدره وعلى عهده ، القادم ايها السادة هو معركة الفصل بين الحق والباطل التي أصبحت ضرورة حياتية لوضع الأمور في مواضعها ، إنها معركة انتصار الحق ليس بقوته العسكرية بل بقوته الأخلاقية التي هي اساس البقــاء والإعمار والسعادة في كل حكايا التاريخ وروايات النضال الانساني ، وما غزة إلا البرهان المنظور لإنطلاق هذه البشرى .
كاتب عربي فلسطيني