ليس واهماً فحسب من يظن أن ما يجري اليوم على الساحة اللبنانية هو جولة عابرة في سجالٍ عسكريٍ محدود، أو مجرد حملة تهدف إلى «نزع سلاح» المقاومة. إنما الواهم حقاً هو من يتخيّل أن هذا الشرق، الممتدّ بين المتوسط ودمشق، يمكن أن يُرسم له مستقبلٌ من دون أن تُخلع من فكه أضراس القوة وعيون الرفض. فالحملة الصهيونية المكثّفة على الجنوب، والمترافقة مع ضغطٍ أميركيٍ محكمٍ وإسنادٍ غربيٍ سياسيٍ وإعلامي، ليست سوى فصلٍ جديدٍ من مشروعٍ قديم، هدفه الحقيقي اقتلاع أسنان الدول المجاورة للأرض المحتلة، وتجريدها من القدرة على الرفض، تمهيداً لتفرد الكيان الإسرائيلي بالمنطقة، ككيان مارق فوق الجغرافيا وفوق القانون.
أولاً: المعركة على الوعي قبل أن تكون على السلاح
ما يُدار في لبنان ليس حرباً على قطعة سلاحٍ أو فصيلٍ بعينه، بل على فلسفة كاملة من الوجود المقاوم. الغرب يدرك أن السلاح يمكن أن يُعاد إنتاجه، لكن الروح إذا انكسرت لا تُستعاد. لذلك تُشنّ الحرب على صورة المقاومة، على شرعيتها الأخلاقية والوجدانية، حتى يُقنع اللبناني بأن مقاومته عبءٌ عليه لا درعٌ له. وهنا تتجلى براعة الحرب النفسية الصهيونية ـ الأميركية، قصف في الجنوب ورسائلُ في الإعلام ومؤتمراتٌ في العواصم، غايتها توحيد الرؤية في الخارج وإرباك الداخل حتى يصبح لبنان متردداً، عاجزاً عن التمييز بين الصديق والعدو، بين الخطر الوجودي والضغط التكتيكي.
إن من يراقب المشهد اليوم يرى بوضوح أن الهدف ليس تحييد صاروخٍ أو مخزنٍ، بل كسر إرادة المقاومة وخلخلة العلاقة بينها وبين بيئتها الطبيعية. إنها حربٌ على مفهومٍ لا على بندقية. ومن هنا يصبح الحديث عن «نزع السلاح» تبسيطاً مضلّلاً، لأن المقصود في جوهره هو نزع الهوية الوطنية المستقلة واستبدالها بهويةٍ تابعةٍ للوصاية الغربية.
ثانياً: من بيروت إلى الضفة الغربية: خريطة مشروعٍ واحد
حين تتكثف الضربات على الجنوب اللبناني في الوقت ذاته الذي يُصوّت فيه الكنيست على ضمّ الضفة الغربية، نفهم أن المشهد ليس عشوائياً، بل مترابطٌ في سلسلةٍ استراتيجيةٍ واحدة. فإسرائيل التي انتظرت زيارة نائب الرئيس الأميركي ” جيه دي فانس” لتعلن تصويتها على الضمّ، إنما توجه رسالة إلى العالم بأسره: «نحن لا نُقاد من أحد، بل نقود الجميع». إنها محاولة لفرض إيقاعٍ سياسيٍ جديدٍ في الإقليم، يقوم على مبدأ أن القوة وحدها هي اللغة التي تُسمَع.
ما قاله نائب الرئيس الأمريكي فانس عن أن قرار الكنيست ضم الصفة الغربية هو خطوة حمقاء، لم يكن دفاعاً عن العدالة، بل عن التوقيت. فالخلاف بين واشنطن وتل أبيب ليس في المضمون، بل في الجدول الزمني؛ كلاهما يريد تصفية القضية الفلسطينية، لكن أحدهما يريدها دفعةً واحدة والآخر بالتقسيط المريح. لذلك فإن أي رهانٍ على تباينٍ أخلاقي بينهما ليس سوى وهمٍ جديدٍ يُضاف إلى قائمة الأوهام القديمة.
إسرائيل لا تلتزم بشيء، لا مع خصومها ولا مع حلفائها. هي كيانٌ وُلد من رحم الخديعة ويعيش بالخداع. من غزة إلى جنوب لبنان، ومن اتفاقيات الهدنة إلى وعود التطبيع، لم تكن يوماً كياناً يفي بالعهد، بل كيان مارق يتغذى على خرقه. وما فعلته مع نائب الرئيس الأميركي نفسه، حين صفعته سياسياً بتصويتٍ في الكنيست لحظة وجوده في تل أبيب، هو نموذجٌ فاضح على أن هذا الكيان لا يعترف بشراكةٍ إلا إذا كان هو السيد وسواه التابع.
ثالثاً: لبنان بين مطرقة الضغوط وسندان التطبيع
الهدف اليوم هو دفع لبنان إلى أحد خيارين: التطبيع أو الغزو. فحين لا تنجح محاولات استدراجٍ ناعمة، يبدأ التحريض الخشن. ضغطٌ مالي من واشنطن، تحريضٌ سياسي من باريس، تحذيراتٌ دبلوماسية من عواصم أخرى، وجميعها تلتقي على هدفٍ واحد: إضعاف لبنان وإجباره على فكّ ارتباطه بالمقاومة تمهيداً لجرّه نحو الاعتراف بالجار الإرهابي الجديد.
لكن لبنان، بتكوينه المعقد، يدرك أن أي تسويةٍ مع العدو خارج ميزان القوة ستكون انتحاراً وطنياً. إن الجنوب ليس مجرد جغرافيا، بل ذاكرة الدم والكرامة. وكل من جرّب أن يساوم على الذاكرة خسر التاريخ والمستقبل معاً. ولهذا فإن وحدة الموقف حول المقاومة ليست خياراً سياسياً بل ضرورة وجودية. فالمقاومة، بكل ما لها وما عليها، هي السور الأخير في وجه التوسع الإسرائيلي، وهي اليد التي ما زالت قادرة على ردّ العدوان حين تُصاب المؤسسات الرسمية بالشلل أو الانقسام.
رابعاً: عن الإهانة والغرور الإسرائيلي
ما قاله وزير مالية الكيان عن السعودية، حين خاطبها بلغة الجِمالـ ليس زلة لسان، بل خلاصة ذهنيةٍ متعالية ترى في العرب مجرد أدواتٍ لتثبيت مجدها. مثل هذه العبارات تكشف عن طبيعة الكيان العميقة. كيانٌ يرى في الآخرين فراغاً وجودياً، وفي نفسه مركز العالم. لذلك فإن أي حديثٍ عن «شرقٍ جديد» تقوده إسرائيل ليس سوى إعادة إنتاجٍ لمشروع الهيمنة الاستعمارية القديمة بلغةٍ حديثة.
هذه الإهانة للسعودية لم تكن موجهة إليها وحدها، بل إلى كل من ما زال يظن أن التطبيع سيكفل احتراماً أو مكانة. فالإسرائيلي لا يحترم إلا من يملك أن يوجعه. وكلما ضعفت الأمة العربية، ازدادت إسرائيل استهتاراً وغروراً. ولعلّ هذا ما يفسر أن أكثر الأصوات تطرّفاً في داخل إسرائيل هي التي ترتفع كلما أحست بضعفٍ عربيٍ جديد.
خامساً: المقاومة كجوهر للأمن القومي
لقد أثبتت العقود الماضية أن القوة وحدها هي التي تحفظ التوازن. ليست القوة العسكرية فحسب، بل القوة المعنوية التي تمنح المجتمع القدرة على الصمود والثقة. والمقاومة في لبنان ليست جسماً طارئاً على الدولة، بل هي جزءٌ من وعيها الجمعي وتجربتها التاريخية في مواجهة الاحتلال. حين قاوم لبنانُ الاجتياح عام 2006، لم تكن المقاومة تدافع عن حدودٍ فحسب، بل عن مفهوم السيادة ذاته. لذلك فإن الدعوات التي تُطرح اليوم لنزع السلاح ليست بريئة؛ إنها دعوات لنزع الحصانة عن بلدٍ محاطٍ بالذئاب.
ومن لا يقرأ التاريخ محكومٌ عليه أن يكرره. فإسرائيل التي انسحبت من الجنوب قبل عقدين لم تفعل ذلك تكرّماً، بل لأن المقاومة أوجعتها. واليوم، حين تعود لتجريب حظها بالغارات والطائرات المسيرة، فهي تراهن على أن الداخل اللبناني أنهكه الانقسام الاقتصادي والسياسي، وأن البيئة التي احتضنت المقاومة سابقاً قد تضعف حماستها. لذلك تأتي اللحظة مفصلية: إما أن يستعيد لبنان وحدته حول خيار المقاومة، أو أن يفتح الباب لغزوٍ جديدٍ بحلّةٍ سياسية.
سادساً: بين التفاوض والوهم
لا توجد في قاموس إسرائيل مفاوضاتٌ تقود إلى انسحاب. التفاوض بالنسبة لها ليس طريقاً إلى الحل بل وسيلةٌ لتمديد الزمن ريثما تُكمل مشروعها على الأرض. من اتفاقيات أوسلو إلى تفاهمات الهدنة في غزة، كانت كل جلسةٍ سياسية تُترجم عملياً بزيادة المستوطنات وتوسيع حدود السيطرة. لذلك فإن من ينتظر «انسحاباً بالتفاهم» ينتظر السراب. إسرائيل تفاوض لكي تتوسع، لا لكي تتراجع.
على لبنان أن يقرأ ما يُحاك حوله بعينٍ استراتيجيةٍ لا بعين التكتيك. فالمؤامرة ليست قراراً منفرداً، بل شبكةٌ من الضغوط المتزامنة. مالية، دبلوماسية، إعلامية، وحتى ثقافية، هدفها تحويل لبنان من خندق مقاوم إلى بوابةٍ للتطبيع. هذا المخطط لن يتوقف عند حدود الجنوب؛ إنه يريد إعادة هندسة المشرق بحيث تتحول كل دولةٍ إلى جزرٍ أمنيةٍ صغيرة تدور في فلك القوة العظمى وتخضع لإملاءات العدو.
من هنا، فالمطلوب من اللبنانيين اليوم ليس فقط الدفاع عن المقاومة، بل الوعي بأنها تمثّل خطّ الدفاع الأخير عن الدولة نفسها. فحين تسقط المقاومة، لا يبقى للدولة سوى قصرٍ من ورق. وفي لحظة الحقيقة، لن تنفعها البيانات الدولية ولا الوعود الغربية، لأن الذي لا يحمي نفسه لا يُحمى.
ثامناً: في خلاصة المعنى
لبنان اليوم ليس أمام معركة حدود، بل أمام معركة هوية. فإما أن يكون رقماً في معادلةٍ يرسمها الآخرون، أو يكون معادلةً بحدّ ذاته. إنّ منطق التاريخ يقول إن الشعوب التي تتخلى عن مقاوميها، تفقد تدريجياً حقها في الحياة. والمقاومة ليست خياراً عاطفياً بل قدَر جغرافيٍ فرضته الجوار والذاكرة.
في نهاية المطاف، سيبقى ميزان القوى في المنطقة محكوماً بمعادلةٍ بسيطة هي من يملك الإرادة يملك المستقبل. أما من يظن أن الأمن يُشترى من واشنطن أو يُؤخذ بوعود التطبيع، فسيكتشف حينها أن كل ما باعه كان وطنه.
فيا لبنان، احذر أن يُغرّوك بالوعود، أو أن يُخيفوك بالعقوبات. فالمعركة الحقيقية ليست بين سلاحٍ وسلاح، بل بين ذاكرةٍ تحفظ الكرامة وذاكرةٍ تُستأجر. قاوم، لأن المقاومة ليست بندقيةً فحسب، بل وعيٌ وكرامةٌ وصوتٌ يقول: “لن نكون بوابةً للتطبيع، بل جداراً في وجهه”.