خطة ترامب – نتنياهو: سلام مفخخ يزرع الهزيمة في صدر الفلسطينيين

اخترنا لك

| محمد التاج

بينما وقف دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو أمام عدسات الكاميرات ليعلنا ما سمي بخطة السلام لإنهاء حرب غزة، بدا المشهد وكأنه عرض مسرحي معد مسبقا بعناية: رئيس أميركي يسعى لتثبيت صورته كصانع للسلام، ورئيس وزراء إسرائيلي يريد تسويق النصر بعد عامين من الدم والدمار. لكن ما خفي خلف الخطاب المنمق والابتسامات المتبادلة هو أخطر بكثير، إذ أن الخطة التي وصفت بأنها “خارطة طريق جديدة” لا تحمل للفلسطينيين سوى تكريس للهزيمة، وشرعنة لواقع الإبادة والحصار، وتفكيك للقضية إلى أجزاء متناثرة.

تضع الخطة الأميركية وقف إطلاق النار كخطوة أولى، لكن ليس على قاعدة متكافئة. فوقف النار مرتبط بقبول حماس وبقية الفصائل ببنود الخطة كاملة، وهو ما يجعل الهدوء مشروطا بالاستسلام. الفلسطيني الذي عانى من آلاف الضحايا وموجات النزوح والتجويع لا يعطى الحق في أن يلتقط أنفاسه لمجرد حقه الإنساني، بل يطلب منه أن يدفع ثمنا سياسيا مقابل ذلك. هذا يعني أن الفلسطيني محاصر بين الموت بالقصف أو الموت بالتجويع السياسي.

تتحدث الخطة عن الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين خلال 72 ساعة، مقابل إطلاق سراح أكثر من ألفي أسير فلسطيني. للوهلة الأولى يبدو ذلك توازنا عدديا، لكن جوهر المعادلة مختلف: فإسرائيل تستعيد جنودها ومدنييها كـ”نصر وطني”، فيما الفلسطيني يفرج عنه ضمن صفقة مشروطة، وبإمكانية إعادة اعتقاله في أي لحظة بحجة “الإخلال بالأمن”. الأسير الفلسطيني يتحول من رمز للمقاومة إلى ورقة للمساومة في يد واشنطن وتل أبيب.

من أخطر بنود الخطة هي إنشاء إدارة انتقالية لغزة، يديرها “مجلس خبراء” تحت إشراف ترامب نفسه، ويشارك فيه توني بلير. هذا الترتيب يعيد إنتاج صيغة “الانتداب” بشكل جديد. فغزة ستصبح مختبرا دوليا، تدار من فوق، بلا سيادة فلسطينية حقيقية، وبلا مشاركة شعبية. بدلا من أن تكون غزة بوابة نحو الدولة الفلسطينية، تتحول إلى ساحة تجريب للسياسات الغربية، وإلى كيان معزول يدار بقرارات فوقية أشبه بمجلس أمناء لمستعمرة.

الخطة تشترط صراحة ألا يكون لحماس أي دور، مباشر أو غير مباشر، في إدارة غزة بعد الاتفاق. بمعنى آخر، يطلَب من الشعب الفلسطيني أن يتنصل من قواه السياسية والعسكرية التي قاومت الاحتلال على مدى عقود، وأن يسلم زمام أمره لسلطة تكنوقراطية محايدة. هذا ليس شرطا للسلام، بل محاولة لتجريد الفلسطينيين من أدوات قوتهم وإعادة صياغة وعيهم وفق مقاييس الاحتلال.

يقدم الإعمار في الخطة كجائزة للفلسطيني المطيع. من يلتزم ببنود الخطة يحصل على مشاريع تنموية وربط اقتصادي ودعم مالي، ومن يرفض يبقى محاصرا بين الركام. بهذا تتحول المساعدات من حق إنساني إلى أداة ابتزاز سياسي. والأخطر أن الإعمار سيتم بإشراف دولي مباشر، ما يعني أن القرار الفلسطيني في كيفية إعادة بناء مدنه لن يكون بيده. ستبنى البيوت على مقاسات المانحين، لا على مقاسات أحلام أهلها.

الخطة تفتح نافذة حديثة عن “إمكانية التوجه نحو دولة فلسطينية” في المستقبل، لكنها تقرن ذلك بشروط مستحيلة: نزع سلاح الفصائل، ضمان أمن إسرائيل الكامل، إقرار الفلسطينيين بالطابع اليهودي للدولة العبرية، والقبول بإدارة دولية انتقالية. بمعنى آخر، الدولة ليست حقا ثابتا بل مكافأة لمن يتخلى عن حقوقه الأساسية. هي دولة بلا سيادة، بلا جيش، بلا حق عودة، وبلا سيطرة على الحدود.

هذه الخطة تضرب في صميم الوحدة الوطنية. فهي تكرس الفصل بين الضفة وغزة، وتجعل الأخيرة كيانا معزولا خاضعا لوصاية دولية، بهذا يتفتت الكيان الفلسطيني أكثر فأكثر، ويتحول المشروع الوطني إلى أشلاء، سلطة في الضفة، إدارة دولية في غزة، وملايين اللاجئين في الشتات بلا أفق.

الأخطر في الخطة أنها تمنح إسرائيل غطاءا سياسيا وأخلاقيا لما ارتكبته من مجازر في غزة. نتنياهو الذي قاد حرب إبادة ضد المدنيين سيقف أمام العالم باعتباره صانع سلام يستجيب لمبادرة أميركية. كل ما فعله من قتل وتجويع وتدمير يمحى بضربة قلم، ويعاد تقديمه كخطوات اضطرارية أو ثمن ضروري للوصول إلى الاتفاق. وبهذا تكتب الرواية الرسمية من منظور الجلاد، بينما يدفن صوت الضحية تحت الركام.

لن يقبل الفلسطيني البسيط بخطة تفرض عليه من فوق. فقد جرب من قبل وعود أوسلو، ورأى كيف تحول السلام إلى توسع استيطاني وجدار فصل عنصري وحصار خانق. الشارع الفلسطيني اليوم أكثر وعيا من أي وقت مضى بأن أي تسوية لا تبنى على أساس الحقوق الثابتة في الحرية، الاستقلال، العودة، ليست سوى فخ جديد. ولذلك، فإن هذه الخطة ستواجه بالرفض الشعبي، حتى لو قبلت بها بعض النخب السياسية أو العواصم الإقليمية.

الولايات المتحدة تراهن على أن بعض الدول العربية ستدعم الخطة بدعوى إعادة الإعمار أو الحفاظ على الاستقرار. لكن هذا الدعم لن يكون مجانيا، بل سيعمق فجوة الثقة بين الشارع العربي وحكوماته. أما على المستوى الدولي، فستحاول واشنطن إعادة فرض نفسها كوسيط أوحد، رغم أنها منحازة بالكامل لإسرائيل. النتيجة المتوقعة هي مزيد من الاستقطاب، محور يصفق لترامب ونتنياهو، ومحور آخر يرى في الخطة استمرارا للاستعمار الحديث.

خطة ترامب–نتنياهو ليست مشروع سلام، بل وصفة لإدامة الاحتلال وتفتيت القضية الفلسطينية. هي خطة تفترض أن الفلسطيني يمكن إخضاعه بالحصار والتجويع، وأنه سيقبل بأي تسوية تعرض عليه مقابل التقاط أنفاسه. لكنها تتجاهل حقيقة تاريخية راسخة، هذا الشعب قاوم 77 عاما من النكبات والخذلان، ولم يسقط رايته رغم كل أشكال القمع.

إن أخطر ما في هذه الخطة ليس ما كتب على الورق، بل ما تحاول أن تزرعه في وعي العالم، أن النصر العسكري يفرض السلام، وأن الضحية ينبغي أن تكافأ بالفتات. مواجهة هذه الرواية تحتاج إلى صوت فلسطيني واضح، يقول للعالم إن الحقوق لا تباع في مزاد المؤتمرات، وإن السلام الحقيقي لا يولد من رحم الإبادة، بل من الاعتراف بالعدالة والحرية والسيادة الكاملة.

الفلسطيني اليوم أمام مفترق طرق جديد، لكنه مفترق مألوف، إما أن يقبل سلاما مفخخا يضمن لإسرائيل ما عجزت عن تحقيقه بالحرب، أو أن يواصل درب الصمود حتى تكتب معادلة جديدة بمداد الدم والتضحيات. وما بين هذين الخيارين، يبقى الدرس الأبدي حاضرا، أن فلسطين لا تختصر في غزة أو الضفة أو اتفاقيات تصاغ في واشنطن، بل هي كل الأرض، وكل الحق، وكل الأمل الذي يسكن قلوب أبنائها جيلاً بعد جيل.

أحدث العناوين

باريس يخطف فوزاً ثميناً من برشلونة في دوري الابطال

حقق باريس سان جيرمان، انتصارا ثمينا بنتيجة (2-1) على برشلونة، مساء اليوم الأربعاء، على ملعب "لويس كومبانيس" في العاصمة...

مقالات ذات صلة