الوضع الطبيعي الجديد في البحر الأحمر.. كيف تعكس حركة الملاحة التحولات الكبرى التي صنعها اليمن؟

اخترنا لك

ضرار الطيب|

أصبح انتعاش حركة الشحن في البحر الأحمر أمرا واقعا مع استمرار وقف إطلاق النار في غزة وتوقف العمليات البحرية اليمنية تبعا لذلك، لكن هذا الانتعاش جاء في إطار الواقع الجديد الذي فرضه الحصار اليمني غير المسبوق على حركة الملاحة المرتبطة بإسرائيل لمدة عامين، وليس خارجا عنه، وهو ما يبقي قطاع الشحن منقسما في الظاهر بين خياري استئناف حركة العبور أو الانتظار، لكن على الواقع فإن الانقسام هو التأقلم مع قواعد السيادة الإقليمية التي يفرضها اليمن على البحر الأحمر لضمان أمن واستقرار ومصلحة المنطقة، أو انتظار عودة نظام الهيمنة القديم.

برغم أن الخروقات الإسرائيلية المتجددة تبقي حالة عدم اليقين مرتفعة بشأن صمود وقف إطلاق النار في غزة، وبالتالي الوضع في البحر الأحمر، فإن ذلك لم يوقف التحسن المتزايد في حركة الشحن عبر باب المندب وقناة السويس، حتى أن شركات ملاحية أطلقت خدمات ملاحية جديدة عبر الممر المائي للاستفادة من الطلب. لكن شركات الشحن الإسرائيلية والمرتبطة بشكل وثيق بإسرائيل لا زالت خارج سياق هذه العودة عمليا حتى الآن، الأمر الذي يخلق فرزا مهما يستوجب الدراسة، لأنه لا يتعلق بفترة عابرة، بل بمستقبل حركة الشحن عبر هذا الممر لسنوات قادمة في ظل صراع من الواضح أنه سيستمر.

في تصريحات لافتة، قال الرئيس التنفيذي لشركة (زيم) الإسرائيلية للشحن إيلي جليكمان، مؤخرا، إن الشركة “تتطلع للعودة إلى البحر الأحمر في أسرع وقت ممكن” لكنها تنتظر الضوء الأخضر من قطاع التأمين البحري، مشيرا إلى ان وقف إطلاق النار في غزة يشكل “تقدما” لكن هناك حاجة إلى “مزيد من الضمانات بشأن استمراريته”، وأضاف أن “العودة في المستقبل القريب تبدو الآن محتملة بشكل أكبر”.

يمكن اعتبار موقف (زيم) معيارا لمواقف شركات أخرى مثل (ميرسك) و(إم إس سي) و(هاباغ لويد) ليس لأن الأولى أكبر حجما في السوق، ولكن لأنها الأقرب إلى دائرة المخاطر التي كانت قائمة، باعتبارها شركة إسرائيلية بالكامل (وهي من أوائل الشركات التي تلقت تحذيرا مباشرا من القوات المسلحة اليمنية وغادرت البحر الأحمر)، وبالتالي فإن احتمالية عودتها إلى البحر الأحمر، تؤثر بشكل كبير على تقييمات بقية الشركات الأخرى التي غادرت المنطقة بسبب ارتباطاتها الجزئية بإسرائيل.

لكن تصريحات جليكمان “المتفائلة” لا تشير في الحقيقة إلى انتهاء مخاطر عبور البحر الأحمر تماما للشحن المرتبط بالعدو، بل تعكس على الأكثر وجود تقييمات لدى الشركة الإسرائيلية بصمود وقف إطلاق النار في غزة، ومع ذلك فإن ربط العودة بموقف قطاع التأمين يؤكد أن هذه التقييمات ليست قاطعة، وبالتالي فإن موقف (زيم) لا يختلف عن موقف (ميرسك) المتردد إلا في نبرة التفاؤل.

والسؤال الذي تثيره تصريحات جليكمان هو: كيف يرى قطاع التأمين البحري الوضع في البحر الأحمر؟ وهو سؤال لن تكون له إجابة واحدة، لأن أقساط التأمين على عبور البحر الأحمر ارتفعت خلال العامين الماضيين إلى 2% من قيمة السفينة، لكن ليس لكل السفن بل لتلك المرتبطة بإسرائيل (والولايات المتحدة وبريطانيا في مرحلة ما) فيما ظلت أسعار التأمين على السفن الأخرى منخفضة، وهذا ما هو قائم اليوم، فبينما تردد العديد من التقارير أن أسعار التأمين لا تزال مرتفعة، فإنها تتجاهل فئة السفن المرتبطة بهذا الارتفاع، وتتجاهل حقيقة أن حركة عبور باب المندب قد زادت فعلا، بما في ذلك حركة سفن الحاويات العملاقة التي لا يفتقر أصحابها بالتأكيد للحرص على السلامة.

إن الغموض فيما يتعلق بالوضع في البحر الأحمر يعود فقط إلى تجاهل نظام العقوبات البحرية اليمنية، وبمجرد الاسترشاد بهذا النظام يصبح الوضع واضحا، فبينما تتصرف الشركات المرتبطة بإسرائيل اليوم وكأن المشكلة عامة، فإن بقية قطاع الشحن تتأقلم بالفعل مع حدود هذا النظام في كل شيء، بما في ذلك تقييمات المخاطر، فحتى مركز المعلومات التابع للقوات البحرية المشتركة والذي تشرف عليه البحرية الأمريكية، يردد أسبوعيا أن المخاطر المرتفعة تتركز على حركة الشحن المرتبطة بإسرائيل، فيما يقيّم التهديد ضد السفن الأخرى بأنه “متوسط”.

وبتطبيق هذا الفرز، فإن “الضوء الأخضر” الذي تنتظره (زيم) وغيرها من الشركات المرتبطة بإسرائيل من قطاع التأمين البحري، لن يكون على شاكلة “لقد انتهت الأزمة” بل سيكون محددا ومشروطا، لأن هذه الشركات قد ربطت حركتها في البحر الأحمر بـ”أكثر الملفات اضطرابا في الشرق الأوسط” حسب تعبير المحلل الأمني والتجاري الهولندي سيريل فيدرشوفن، والذي يقول إنه: “إذا استؤنف القتال، فقد يُعيد فتح أبواب الجحيم بسهولة.

وبهذا المعنى أصبح باب المندب الآن مُسعّرًا بالمخاطر هيكليًا: فحتى في فترات الهدوء، ستُضيف شركات التأمين ومالكو السفن علاوة جيوسياسية على عمليات النقل، تمامًا كما يفعلون في مضيق هرمز” معتبرا أنه “في السنوات القادمة، لن تكون هناك عودة إلى الوضع الراهن قبل عام ٢٠٢٣، بل إلى وضع طبيعي جديد”.

ويضيف فيدرشوفن أن “التقييمات يجب أن تستند إلى حالة تكون فيها قناة السويس متاحة ولكن غير مضمونة، وباب المندب مفتوحًا ولكنه مؤقت، وتكون الدوريات البحرية ورسوم المخاطر سمة دائمة وليست إجراءً طارئًا، حيث سيضع الشاحنون ومخططو الأساطيل نظامًا وجداول زمنية قابلة للتنقل بين قناة السويس ورأس الرجاء الصالح”.

وفقا لذلك، يمكن القول إن التردد الذي تعيشه الشركات المرتبطة بإسرائيل اليوم بشأن العودة إلى البحر الأحمر لا يتعلق فقط بصمود وقف إطلاق النار في غزة، بل بشأن التعامل مع الوضع الجديد على المدى الطويل، وهو أمر سيتجلى بشكل أوضح إذا صمد وقف إطلاق النار لفترة أطول، فبينما لا تزال المخاوف من انخفاض أسعار الشحن في حال العودة بسرعة إلى البحر الأحمر، تعزز حاليا خيار الانتظار، فإن الانخفاض المتوقع قريبا بشكل كبير في أسعار الشحن، سيجعل استمرار الانتظار بلا معنى، ومع استمرار تزايد حركة عبور البحر الأحمر، ستجد هذه الشركات نفسها معزولة بشكل أوضح.

وبالنسبة مثلا لـ(ميرسك) التي لا تزال تصر على أن عودتها إلى البحر الأحمر يجب أن تكون بشكل كامل، وليس بالتدريج أو بشكل جزئي، فإن “الوضع الطبيعي الجديد” يشكل تعقيدا كبيرا لعملياتها، إذ ستظل علاقتها بإسرائيل تجعلها معرضة لأقساط التأمين المرتفعة، وتقييمات المخاطر المرتفعة المرتبطة باحتمالات التصعيد، لأن تحقق شرط “السلام الإقليمي الشامل والمستدام” الذي يضمن العودة إلى الوضع ما قبل طوفان الأقصى، ليس واردا على أية حال، وبالتالي سيكون عليها إما التخلي عن العلاقة بإسرائيل، أو التخلي عن ميزة عبور البحر الأحمر، أو إيجاد نوع من المرونة يناسب فترات الهدوء والتصعيد، وهو أمر صعب.

لقد حاولت الولايات المتحدة وإسرائيل تدويل الوضع في البحر الأحمر خلال العامين الماضيين، للتخلص من هذا الواقع الجديد الذي يقضي بأن هذا الممر الملاحي صار يخضع لسيادة إقليمية صارمة تعرض من يرتبطون بالعدو لعقوبات حتمية في أوقات التصعيد، وبرغم أن المساعي الأمريكية والغربية لعسكرة هذا الممر قد جعلت نطاق الأضرار يتسع فعلا في مرحلة ما، فإن معايير هذه السيادة الإقليمية استطاعت أن تفرض نفسها في النهاية لتؤكد أن البحر الأحمر لا يعيش “أزمة ملاحية” بل يشهد تبلور نظام جديد يعيد تشكيل موازين القوة والنفوذ لتتلائم بصورة أخلاقية وقانونية مع اعتبارات أمن واستقرار وحقوق شعوب المنطقة، وليس مع اعتبارات الهيمنة الأمريكية.

والحقيقة أن وضع الملاحة المرتبطة بإسرائيل اليوم ليس الشاهد الوحيد على الوضع الجيوسياسي الجديد الذي صنعه اليمن من خلال نظام العقوبات البحرية غير المسبوق على قوى الإبادة الجماعية، فتفاصيل هزيمة البحرية الأمريكية في البحر الأحمر تؤكد كلها على أن ما حدث لم يكن عابرا، بل بداية لزمن جديد.

أحدث العناوين

صحيفة أجنبية: وسائل الإعلام البريطاني متواطئة في الإبادة الجماعية بغزّة

نشرت صحيفة ذا نيشن مادة صحفية سلطت الضوء على دور وسائل الإعلام البريطاني في تغطية الأحداث في قطاع غزة،...

مقالات ذات صلة