اسرة في الحديدة : نفس واحد يكفينا للبقاء على قيد الحياة”

اخترنا لك

عمر (اسم مستعار) رجل في الستين من العمر من أبناء منطقة الضحاوية بمديرية الدريهمي (جنوب مدينة الحديدة)، اعتاد عيش حياة القرية ببساطتها وتفاصيلها الجميلة، لكن الحرب في الدريهمي أجبرته على استبدال القرية الصغيرة بمدينة كبيرة تاه في شوارعها، وأصبح منزله الكبيرة عبارة عن غرفة حراسة ضيقة يتوسد بها الهم مع زوجته وأطفاله السبعة، يقول الحاج عمر “أصبح البحث عن منظمات إغاثية وعن فاعلي خير هو أكبر همي لأسد جوع أسرتي ومرض زوجتي”.إذ يعول الحاج عمر زوجته رقية المريضة بالقلب والضغط الى جانب سبعة أطفال أكبرهم بعمر (17 عاما) وآخرهم لم يبلغ الثالثة بعد.

” وجوه خائفة بانتظار الموت”

تكتسي الدريهمي حلة بهية، تمتزج فيها الطبيعة الخضراء مع صفاء مياه البحر، مروراً بالمملاح الذي تغطيه أسراب من الطيور المحلقة في السماء وكأنها تشاركك الفرحة والبهجة، فجأة انقلب الوضع رأسا على عقب، أزيز الطائرات يعلو على كل صوت، ودوي القذائف يبعث الرعب والهلع في قلوب ساكنيها، أصبحت الدريهمي أقرب ما نسميه (مدينة أشباح)، بات الجميع يبحث عن مأوى يحتمي به من صلف الحرب وضراوتها.
يقول (الحاج عمر): “كنت أعيش في بيت كبير مع زوجتي وأطفالي، ولدينا بعض الدواب التي نعمل على تربيتها لنقتات منها لقمة العيش، ولكن منذ بدأت نيران الحرب تقترب ونحن نعيش في هم وحزن وخوف”

تفشت حالة الرعب، جميع السكان قرروا النزوح، لعل ذلك ينجيهم من وطأة الحرب، “لم اكن أملك ما يمكنني من النزوح ولا أدري ماذا أفعل، كلما سمعت دوي الانفجارات أسرع بوضع أطفالي وسطنا، وننام أنا وزوجتي على الأطراف لنلتف حول أطفالنا المتحاضنين، فإما نعيش مع بعضنا أو نموت جميعاً، وحينما اشتد القصف، عرفنا ألا أمل لنا بالبقاء، وأن الأمر سيتفاقم أكثر، خاصة حين بدأنا نرى نزوح جيراننا والكثير من أهالي القرية…”

“( قرية تحترق، وأب مفقود، ونزوح للمجهول )..!”

زاوية ضيقة يكادون يخترقون جدرانها من شدة الخوف، ورائحة الدخان تلفح الاجواء، وأصوات القصف لا تترك مجالا لصمت ام تسبح وتناجي الله، واطفال تيبست حلوقهم من الذعر، وأب خرج ولم يعد.. تتحدث (رقية – زوجة عمر) بمرارة عن ذكرى ذلك اليوم “كانت االقرية أشبه بتنور يحترق، لا ترى سوى نيران الحرب تحصد الأخضر واليابس، كان زوجي قد ذهب ذلك اليوم من الصباح الباكر ليبحث عمن يشتري الأغنام، ولكنه تأخر في الرجوع، ذهبت بأطفالي إلى بيت عمهم فوجدتهم يعزمون الامر بالنزوح في أي لحظة هدوء، أخبرني أخ زوجي بأن لديه صديق في الحديدة أخبره بأنه يمتلك منزلا خاليا يستطيعون المكوث فيه حتى تهدأ الأوضاع !!”

تشير تقارير أممية لعام 2018، إلى أن أكثر من 500 أسرة نزحت من الدريهمي بسسب الحرب خلال يومين فقط، فيما نزحت أكثر من 1000 أسرة من قرية المنظر، وتعاني أكثر من 7000 نسمة حصارا خانقا يطال تدفق الغذاء والوقود والدواء في مخالفة جسيمة للقانون الدولي الإنساني.

(نجونا من الموت ولم ننج من الجوع)

عاشت أسرة عمر فصول مأساة لم تنتهي بعد، ساءت ظروفهم، وصعبت عليهم الحياة، سيما بغياب الراعي والمعيل الذي اختفى صوته ولم يبن أثره..”أخذني أخو زوجي أنا وأطفالي مع أسرته وتركنا كل شيء خلفنا، لم آخذ معي سوى 15الفا هي كل ما نملك، وصلنا إلى الحديدة، لاقانا شخص وأخذنا إلى منزل فارغ يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، حتى قطرة الماء لم نجد أثرها، لم نجد حتى فراشا ننام عليه”.

لم تكن هذه نهاية المعاناة التي عاشتها رقية وأطفالها السبعة، ففي حين كانوا متمسكين بخيط الأمل الوحيد الذي يمكن أن يجدوا به أباهم؛ إلا أنه انقطع عندما كانوا بأمس الحاجة إليه، تقول (رقية) بصوت تقطعه – من وقت لآخر- تنهيدة ودمعة”جلسنا اني وإيالي بمبيت، وخي زوجي باك مأ امرجال، ولما سالته:لمه مش ساكن مآنا؟ قال: دبروا حالكن، أنا مأي جهله قليل، وانتن مآك ملان، وانا مش قادر اجلس معاكن هنا، لاتخافوش زوجك شيتي لما إندك، وبأدها ما شفت لا زوجي ولا خيه”، (جلسنا أنا وأولادي في البيت، وأخو زوجي رحل مع الرجل، وعندما سألته: لماذا لن تسكن معنا؟ قال: دبروا أنفسكم، أنا أولادي قليلون، وأنت معك كثير، وأنا غير قادر للمكوث معكم، لا تخافوا، سيعود إليك زوجك، وبعدها لم أر زوجي ولا أخاه).

مرت تلك الليلة على أسرة (عمر) ، وقد ذاقت مرارة الجوع العطش، لم يكن ثمة شيء يسد جوعهم أو يروي عطشهم، غرباء في مدينة لا يعرفون عنها شيء، ” لم ننم تلك الليلة، سيما بعد أن تخلى عنا عم أطفالي وتركنا وحدنا، لم نذق فيها طعاما ولم ترطب حلوقنا قطرة ماء، غرباء لا نعرف أحد، لم أكن أخشى على نفسي كخشيتي على أطفالي، فجوع طفلي الصغير (علي) وعطشه جعله يبكي طوال الليل، ليتنا متنا قبل أن نعيش تلك الليلة وآلامها”.. لقد مات ضمير الإنسانية حقا، فما عاشته (رقية) وأطفالها يدمى له القلب قبل أن تذرف له عين.

مرت الأيام والليالي، دون جدوى من عودة الحاج (عمر)، أكثر من شهر يعاني أطفاله أسوأ أيامهم، لا معيل ولا أنيس، وحشة ما بعدها وحشة، تصفها رقية بقولها: “مر يوم ويومين، أسبوع، وشهر، لم يأت زوجي ولم نسمع عنه أي شيء، كنت أشحت من الناس ما يمكن أن أطفئ به جوع أطفالي، وأحمد الله أننا وجدنا جيرانا تساعدوا معنا بقدر استطاعتهم، منهم من أحضر فراشا، وآخر ماء، حاولت أن أصل لعاقل الحارة لعله يضمنا في كشوفات الإغاثة، لكنه طلب بطاقة وورقة تفيد بأننا نازحون، فقدنا أملنا في العيش فحاولت العودة للدريهمي إلا أنها ما تزال محاصرة”.

“أب بقدم واحدة، وفي جعبته فاجعة “

بعد مرور شهرين عاد الحاج (عمر) بجسم نحيل، وقدم واحدة، وهالة كتب الفقر عليها للأعين ما يكتب الذبول على الزهرة إن صارت قشا، عاد إلى أطفاله بعد معاناة بحث وألم، لم تصدق (رقية) وأطفالها منظره وهو برجل واحدة، ظلت تبكي هي وأطفالها على ما حل بهم، حيث يقول الحاج (عمر) أنه في اليوم الذي ذهب فيه لبيع الأغنام، كان قد التقى بأحد التجار ليعرضها عليه، وحينما اتفقا على السعر عاد إلى القرية، وبسبب القصف والاشتباكات لما يستطع المرور، “ضللت مختبئا حتى يهدأ الوضع، وعندما وصلت للمنزل، لم أجد أحدا، سألت أحد الجيران الباقين في القرية، فأخبرني أن أخي ذهب إلى الحديدة، وأخذ زوجتي وأطفالي معه، وعندما عدت لآخذ الغنم، ضربت قذيفة بالقرب من المنزل وأصباتني، ولم أستفق بعد ذلك إلا بالمشفى، مبتور القدم، وبعد مرورة فترة استطعت الخروج، وعلمت بعد ذلك أن منزلي تم قصفة بالكامل”.
استمر (عمر) بالبحث عن زوجته وأطفاله، حتى وجد أحد معارفه دله على بيت اخيه… !!

“مجبرين على نزوح آخر “

كل يوم تخبئ الحياة ل(عمر) معاناة جديدة، كلما حاول الخروج من مأساة حتى يقع في مأساة أخرى هي أشد وقعا على قلبه وقلوب أسرته، انتشر الأطفال في أزقة الشوارع يبحثون عما يقتاتون منه، خصوصا في ظل ارتفاع الأسعار وانعدام فرص العمل أمام رجل ستيني العمر، يقول (عمر) وقلبه يعتصر ألما وحرقة: ” كثرت المصاريف، وغلت الأسعار، وانعدمت فرص العمل، فقر، وجوع، وبطالة، ومرض، تغلقت بوجهي وبوجه اطفالي كل أبواب الرزق، فقلت لأطفالي: كل واحد يخرج يطلب الله على نفسه، إذ لم يعد من سبيل للخلاص”

ويضيف عمر: “البنت الكبيرة (زينب 17 عاما) تخرج عند الجيران تساعدهم بما تأتي به من طعام لنا، و(نورة 13 عاما) تجلس عند باب المسجد، أما (بلقيس 11عاما) تذهب للتسول أمام بوابة المدرسة، وأنا أخرج من الصباح الباكر أبحث عن عمل، ولما يئست مددت يدي مثلهن، والحمدلله فاعلو الخير ساعدونا، لكن الإغاثات محرومون منها، ليس لدي بطاقة ولا أملك المال لأقطع بطاقة جديدة، وزوجتي مريضة”.

كل صباح يتردد صاحب البيت على أسرة (عمر) يطالب ببيته، ويريد منهم أن يخرجوا منها، “صاحب البيت الذي آوانا كل يوم يمر علي يطلب مني إخلاء منزله؛ فهو بحاجة إليه… لقد أصبحنا مجبرين على النزوح من جديد، ولكن إلى أين؟ سنرى ما تخبئ لنا الأيام من أوجاع أخرى”.

لم يعد بوسع الحاج (عمر) عمل أي شيء، تتوالى عليه المعاناة واحدة تلو الأخرى، وهو إذ يضع يده على خده وينظر في البعيد ، ليترك دموعه تختم بصمتاً ترجمنه..

لم يعد هذا النفس الذي يدخل الى رئتينا كافياً لأبقائنا على قيد الحياة..
لقد تعبنا ولم يعد بوسعنا الركض اكثر ، فكفانا حروب، كفانا وجع، لم نعد نجد في الحياة متنفسا نستنشق منه نفس الحياة الآخر .!!

أحدث العناوين

Massive Saudi reinforcements on the border with Yemen

On Thursday, Saudi Arabia has initiated military movements on its southern border with Yemen.Exclusive - Al-Khabar Al-Yemeni:Media sources reported...

مقالات ذات صلة