من يبني الدولة؟

اخترنا لك

لابد أن تكونوا قد سمعتم من البعض يومًا ما كلمات تقديرٍ للمقاومة لجهة إنجازاتها العسكرية مقرونةً بسؤالٍ بلاغيٍّ Rhetorical Question من قبيل:

“لقد حرروا الأرض، ولكن هل هؤلاء المتدينون المنغلقون قادرون أن يبنوا لنا دولة؟”

بعد أن فتحت عيناي على الترسبات الفكرية الأورومركزية التي سيطرت على عقولنا منذ ولدنا، وأعدت ترتيب الأولويات، اتضحت الرؤية عندي إلى درجة اليقين بأن قوى التحرر التي نشأت من قلب المعركة والحاجة، والتي اشتد عودها في إيران، وجبل عامل وسهل البقاع، وبلاد النهرين، وجبال اليمن، وغزة الاخوانية حتى (رغم طبيعة تنسيق الأخيرة المصلحي وغير التام مع محور المقاومة، الذي نقل ثقلها في الصراع الى جانب محور المقاومة وليس العكس)…

سوف ترفع كلفة الهيمنة في المنطقة إلى حدٍ لا تطيقه الإمبراطورية المأزومة أصلًا بفعل صعود الصين وروسيا وإيران وغيرها من الدول، فلا يبقى أمامها إلا خيارٌ واحدٌ فقط لا غير: الانسحاب من المنطقة بسبب تعذر الحل العسكري الشامل لعدم توفُّر القدرة والإمكانيات.

وإذا انطلقنا من أن زوال الهيمنة سوف يُفعِّل للشعوب أبسط غرائزها، كتشخيص مصلحتها مثلَا، فسوف يكون مسار التكامل والوحدة وبناء الدولة عندنا مسارًا طبيعيًّا جدًّا بعد زوال الاحتلال والهيمنة وما يترافق معها من ضغطٍ وتهديدٍ ووعيدٍ ومنعٍ وحرمانٍ وٍعزل وحصارٍ وقصفٍ وتدميرٍ إلخ…

عندها أيضًا، يتحرر الجيش المصري من أصفاده، وهو ابن الشعب المصري، ولن يضل عن مصلحة بلاده التي يعرفها بالفطرة والتي تشير إليها أبسط قواعد الإستراتيجيا والعسكر، وعلى من يشكك بذلك أن يعي أن حال جيش أمريكا وكامب ديفيد الآن لا يختلف جوهريًّا عن حال جيش بريطانيا والملك إبَّان انقلاب عبد الناصر الذي ما لبث كثيرًا قبل أن تحوَّل إلى ثورة.

إذا ما أتم المشرق العربي خطواته المتسارعة نحو التحرر الكامل، لابد أن يُضعِف قبضة الهيمنة على مصر وجوارها العربي الإفريقي، ولابد أن يتم لنا عندها اتصال المشرق العربي بإفريقيا العربية، وهذه وحدها نقطة قوةٍ ما بعدها قوة.

أما إذا تم لنا أيضًا اتصال المشرق العربي بجنوب الجزيرة، فعندها، وبدون تدخلٍ من قوى التحرر في الإقليم والعالم، سوف تُفتِّت الرياح ما تبقَّى من الأنظمة والممالك والمشيخات والتفريخات التابعة التي عفا عليها الزمن، فكيف إذا سعت تلك قوى لإسقاطها، وسوف تسعى.

عندها فقط تبدأ مرحلة بناء الدولة الحديثة، إذ أن مرحلة التحرر الوطني وتكسير الحدود الاستعمارية هي المقدمة الوحيدة لاكتمال شروط الدولة المنوي بناؤها، لاسيما لجهة بناء القوة التي ستقطع يد الهيمنة المانعة من توحيد هذه الكتل البشرية الهائلة في جغرافيا كبيرة ومنيعة ومفيدة، فتتوافر شروط الاقتصاد المنتج المحمي من تلك القوة والقادر على صهر هذه المكونات الاجتماعية في عملية إنتاجٍ وقودها الثروات المحررة ورئتها السوق الكبرى.

في خضم معركة التحرر، ستعلو أصوات المتفذلكين، مدعي الحرص على المقاومة بشرط أن تحصر عملها بالعسكر كونها مجرد عضل، وأن تفتح الدرب لهم هم “النخب المدينية الفهمانة” فتقصي حلفاءها من القوى الاجتماعية الحية والوازنة لأجلهم هم اللاشيء، بهدف أن يتفضلوا علينا بمواهبهم فيبنوا لنا “الدولة العصرية” التي حفظوها صمًّا مما كتبته أوروبا لنا عن نفسها وعنا، ونحن بعد مقسمين مشرذمين تحت الاحتلال والهيمنة لا نملك أن ننسق مع سوريا بشأن لاجئيها ولا أن نقرر بشأن التصرف بثروتنا حتى.

ليست صدفةً أن تموضع مثقفو عصر الانحطاط والهيمنة هؤلاء مع الربيع الغربي في بلاد العرب من أوله إلى آخره، ولم يكن تحفظ بعضهم على هذا الربيع إلا تحفظًا على الأداة الرافعة للربيع في بلادنا ذات الصبغة الدينية… لماذا؟ لأن حليقي الذقون هؤلاء (والملتحين منهم) لا يرون ما هو خلف ذقون الاخوان والسلفيين، لا يرون الهيمنة بتاتًا، وإن أقروا بها فهم لا يفهمونها…

لا يمكن لهؤلاء بأي حالٍ من الأحوال أن يبنوا لنا دولة، فدورهم يقف عند تفجير اجتماعنا القرابي (القبيلي/ الطائفي)، الذي يعصى على فهمهم استيعابه فينكرون وجود بناه الاجتماعية الحقيقية ويعرِّفونها على أنها مجرد أوهام وأمراض دواؤها التغربن والتمدن، ذلك أنه وببساطةٍ لم يرد ذكرها في ما كتبته أوروبا لنا عن أنفسنا… هذا التفجير الذي يبدأ بضغطٍ للإخلال بالتوازنات فيما بين القرابات التي لا يفهمونها.

تخيل مثلًا أنك مضطرٌّ لشرح حاجة المقاومة ذات الحاضنة الشيعية لأن تبقي على تحالفها مع زعيم باقي الطائفة وزعيم أغلبية طائفةٍ أخرى وازنة وما تيسر من زعماء الأقليات في الطوائف الباقية… تخيل أن أنك مضطرٌّ لشرح ذلك لمن يؤمن إيمانًا مطلقًا بصراع الطبقات حيث لا إنتاجٌ ولا طبقات.

لا أمل من هؤلاء… وحده القائم بالتحرير، يفهم بالضرورة معنى وآثار الاحتلال والهيمنة، ويفهم أن التحرر نقيض الاحتلال والهيمنة القائمين الآن، وأن الدولة غدًا بعد التحرير ستكون نقيض الترسيمات الاستعمارية والكيانات المصطنعة… هو وحده التقدمي الذي سيدفع بلادنا إلى الأمام، ومن يعيق مسيره أو يعاديه هو التخلف بعينه.

 

كاتب وباحث لبناني

أحدث العناوين

شواهد على حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني

على مدى الستة أشهر الماضية من الحرب على قطاع غزة، تحولت المستشفيات والمدارس والطرقات إلى مقابر جماعية دفن فيها...

مقالات ذات صلة