| الدكتور الياس عاقلة
أقيمت القمة العربية الإسلامية الإستثنائية “غير العادية” – كما أسموها – مرة ثانية بعد مرور سنة كاملة على القمة العربية الأولى في 11 نوفمبر 2023 لمواجهة الإبادة الصهيونية ضد عرب غزة الفلسطينية . وجاءت هذه القمة الثانية تحت إدعاءات مناقشة استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة ولبنان ، ولإدانة جرائم الكيان الإسرائيلي الاستعماري ، والمطالبة بحظر تسليحه ووقف التبادل الاقتصادي معه ، ووضع السبل الفعالة لإيقاف هذه الإبادة الصهيونية .
وقد جاءت إعلانات من بعض الساسة العرب وبعض الصحف السياسية عن قرارات قادة الدول العربية والإسلامية بالتشاور لاتخاذ موقف موحد في قمتهم هذه لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ولبنان ، وسبل حماية المدنيين ، ودعم الشعبين الفلسطيني واللبناني ، إضافة الى توحيد المواقف والضغط على المجتمع الدولي للتحرك بجدية لإيقاف الإعتداءات المستمرة. ومن الجدير بالملاحظة هنا أن هذه الإعلانات الرسمية تستعمل تصريح “الشعبين” الفلسطيني واللبناني دلالة تفرقة بينهما وكأنهما غريبان وليسا جزءاً من الأمة العربية .
لم تقم هذه الدول العربية بتنفيذ أي بند من القرارت المتفق عليها في القمة الأولى ، التي قامت بعض هذه الدول العربية بمخالفة كاملة لهذه القرارات لتسهيل عملية الإبادة ، ثم انتظروا سنة كاملة من تدمير قطاع غزة وإبادة وتشريد معظم سكانها العرب ثم انتقال عملية الإبادة الى لبنان قبل أن يجتمعوا مرة ثانية في “قمة غير عادية” ثانية رغم وضوحها كقمة مشابهة لكل القمم العربية العقيمة الماضية .
لم يخرج هؤلاة الزعماء العرب والمسلمين بأي نتائج مختلفة عن نتائج القمة الأولى . ورغم إجماعهم الشكلي بالاعتراف أن المجتمع الفلسطيني كامله يعاني مأساةً كبيرة جراء الإبادة الصهيوأميركية طوال 76 عاما إلا أنهم شرعنوا الوجود الصهيوني الغاصب في قلب العالم العربي عند تأكيدهم على الموافقة على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ، مما يعني موافقة ضمنية على حق الصهيونيين بالوجود على الأراضي الفلسطينية التي اغتصبوها عام 1948 . وهذا يعني موافقتهم على خرافة حل الدولتين غير الشرعي وعادم التحقيق بسبب وجود المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية ، وتغلغل هذا الاستعمار داخل مدينة القدس حتى الاجزاء الشرقية منها . كما يتجاهل هؤلاء الزعماء تصريحات رؤساء ووزراء هذا الكيان الإبادي برفضهم لحل الدولتين وبنشر كيانهم على كل الضفة الغربية أولا ثم الانتشار بعد ذلك لتحقيق الحلم الصهيوني إسرائيل العظمى من منابع النيل جنوبا الى منابع الفرات شمالاً .
وأغرب ما خرجت به قمة التخاذل هذه هو التنصل من مسؤولياتها وواجباتها الوطنية والدينية والإنسانية في الدفاع عن جزء هام من الوطن العربي وحماية سكانه ومقدساته وإلقاء اللوم بالكامل على المجتمع الدولي – المنظمات الدولية – لعدم إيقاف جرائم الإبادة الصهيونية . وهذا عذر أقبح من ذنب . كيف يملكون الجرأة على إدانة المجتمع الدولي في حين أنهم هم أنفسهم جزء كبير من هذا المجتمع الدولي ؟
هل يجهل أم يتناسى هؤلاء الزعماء العرب ، زعماء 57 دولة عربية وإسلامية ، أنهم يكوِّنون كتلةً هائلة من المجتمع الدولي باستطاعتها تغيير النظام السياسي والاقتصادي العالمي إذا ملكوا إرادة الاتحاد والتعاون والجرأة على العمل المشترك؟ هل يجهل أم يتناسى هؤلاء الزعماء العرب أنهم يملكون إمكانيات هائلة للضغط على هاته المنظمات الدولية – وحتى على جميع دول العالم – لتحقيق مطالبهم حتى بقرارات سلمية وليست عسكرية إذا كان لديهم الخوف من البطش العسكري الصهيوأميركي؟
بإمكان الدول العربية المطبعة والمتعاونة مع إسرائيل التهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية بإغلاق السفارات الإسرائيلية وطرد سفرائها وبقطع جميع التبادل التجاري الاقتصادي بدل نقل البضائع والأغذية والخضراوات وحتى الأسلحة والمتفجرات الى إسرائيل عبر بلادهم في حين يتضور أطفال غزة جوعا، كما تفعل كل من مصر والاردن والإمارات والسعودية . بإمكان جميع دول النفط والغاز الخليجية التهديد بإيقاف تصدير هذه المواد الحيوية خاصة الى دول الغرب الداعمة لإسرائيل مع قدوم فصل الشتاء في القارة الأوروبية . بإمكان دول الخليج الثرية التهديد بسحب استثماراتها الاقتصادية من دول الغرب وسحب أموالهم من البنوك الغربية خاصة الأميركية مما سيفاقم من الأزمة الاقتصادية الأميركية ومن الدين العام لها الذي زاد عن 35 تريليون/بليون دولار.
بإمكان جميع الدول العربية والإسلامية الأخرى مقاطعة المنتوجات الغربية وإيقاف تصدير المواد الغذائية الى الغرب . باستطاعة الدول الساحلية ذات الموانئ الرئيسية التهديد بمقاطعة وعدم استقبال السفن التجارية الغربية والتأثير بذلك على تكاليف نقل البضائع كما تفعل الآن اليمن . وهناك الكثير من أنواع الضغط المشابهة تحت سيطرة هذه الدول إذا امتلكوا الجرأة والإرادة .
وقد يقول البعض – أمثال اصحاب رؤوس الأموال والتجار العرب – إن مقاطعة اقتصادية ومالية كهذه تسبب خسارات كبيرة في الاقتصادات العربية . وهذا حقيقي ولكنه وجهة نظر قصيرة المدى وتخاذل وطني وديني وإنساني . هذه الخسارات الاقتصادية مؤقتة قد تستمر لبضعة أشهر أو لسنة كاملة ، ولكنها لا تقارن بالخسائر العظمى المستقبلية بعدما تسيطر الصهيونية العالمية على قلب العالم العربي كله وتسيطر على سيادة واقتصاد كل الوطن العربي.
كل ما فعله هؤلاء الزعماء – عدى عن شرب القهوة وتناول الطعام الفاخر بينما أطفال غزة يموتون جوعاً وعطشاً تحت أنظارهم – مجرد كلمات فارغة المعنى بانتقاد واستنكار الجرائم الإسرائيلية وإلقاء اللوم على المجتمع الدولي ولم يذكر أي منهم التضحيات البطولية التي يقوم بها أفراد المقاومة العربية – حماس وحزب الله – إلا الرئيس السوري بشار الأسد .
من الجدير الذكر أيضاً مبادرة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بإنشاء صندوق عربي وإسلامي لإعادة إعمار غزة ولبنان . إسرائيل تدمر المدن العربية بأسلحة وبدعم أميركي أوروبي ويتكفل العرب بإعادة البناء من جديد. المنطق العقلاني والأعراف الدولية تنص على أن إعادة الإعمار ودفع التعويضات تقع على من قام بالتدمير ، على إسرائيل وأميركا والدول الإوروبية التي دعمت وقامت بالتدمير كما نصت هذه القوانين الدولية على ألمانيا أن تدفع لليهود مبالغ طائلة تعويضاً عن المحرقة/الهولوكوست المزعوم. وهذا يتطلب نصراً عربياً قوياً.
لم تنتج هذه القمة “الاستثنائية غير العادية” حتى عن قرار عملي واحد . فقد تمخض الاسد فولد فأرا. النتيجة الوحيدة الملموسة لهذا المؤتمر هو تأكيد نرجسية سمو الأمير السعودي محمد بن سلمان بتوسطة وبصدارته بين ملوك وزعماء ورؤساء وزارات دولٍ عربية وإسلامية رغم عدم قيامه بأي عمل جدي غير إطعام هؤلاء الرؤساء وفرض وجوده عليهم مؤكدا بذلك تسلمه منصب ملك السعودية بعد وفاة والده بدون أي معارضة .
ولم يغب عن الجميع تملق محمد بن سلمان -ولي العهد السعودي – لقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية عندما ثمن إجراءاتها الحكيمة التي اتخذتها في مواجهة تطورات المنطقة . كما دعا إسرائيل الى احترام سيادة إيران والامتناع عن مهاجمة أراضيها ، مشددا أن بلاده لن تسمح أبداً باستخدام أراضيها ومجالها الجوي لمهاجمة إيران ، طالباً من المجتمع الدولي بإلزام إسرائيل باحترام سيادة الجمهورة الإسلامية الإيرانية الشقيقة وعدم الاعتداء على أراضيها، مسلطاً الضوء على العلاقات الودية الجارية بين السعودية وإيران . من يستمع الى كلمات محمد بن سلمان هذه يعتقد أنه هو وليس إسرائيل وأميركا الذي يملك السيطرة الكاملة على أجواء المملكة.
لقد اكتشف محمد بن سلمان كغيره من زعماء وملوك الدول الخليجية بعد عمليتي “الوعد الصادق ” الإيرانية أن إيران أصبحت أقوى دولة عسكرية في المنطقة ومن الحكمة أن يتصالح معها ولو شكليا ليأمن غضبها .
هذه القمم العربية منذ أولها الى آخرها لم تخرج أبداً بأي عمل قومي فعال يخدم الأمة العربية ويؤمن حرية وسلام العالم العربي ، بل إنها قدمت تنازلات كثيرة للكيان الصهيوني المستعمر وشجعته على الإستمرار في تمدد مستعمراته وفي مجازره للعرب . مجرد التنديد واستنكار الجرائم الإسرائيلية المستمرة على امتداد 76 عاما ضد عرب فلسطين ولكن بدون عمل فعلي لوقف هذه المذابح الإسرائيلية وحتى محاولات عقد معاهدات سلام مع هذه الكيان الذي خرق كل هذه المعاهدات بدون عقاب أوردة فعل عربية لم تجدي نفعاً، بل إن هذا الخذلان والضعف وعدم وحدة الدول العربية شجع الكيان الصهيوني المجرم على تصعيد مذابحه الى إبادات جماعية .
الكيان الإسرائيلي عبارة عن مجموعات مرتزقة عسكرية استعمارية مختلفة القوميات مأجورة لإبادة العرب ساكني قلب العالم العربي ذي الموقع الجغرافي الهام عالمياً وذي الثروات الطبيعية الهائلة . وقد خالف هذا الكيان المجرم جميع الاعراف الانسانية وجميع التعاليم الدينية وجميع القوانين الدولية ولذلك فإن الوسيلة الوحيدة لإيقاف هذا الكيان الوحشي هي القوة العسكرية الغاشمة لمحوه عن الوجود لكي يعتبر كل طامع مغتصب قد يأتي بعده . لو تصرف العالم العربي والإسلامي كأمةً موحدةً لما تجرأ هذا الكيان – وكل الدول الداعمة له – على ارتكاب هذه الفظائع الدموية .
*كاتب فلسطيني