مشروع إسرائيل الكبرى.. من جنوب سورية إلى القرن الأفريقيّ

اخترنا لك

| د. محمد الحوراني

التّوغلات الأخيرة واللّقاءات السّرّيّة والعلنيّة

في مقاله المنشور بتاريخ ٢٦-٨-٢٠٢٥م في “إسرائيل هيوم” يبدو نائب رئيس جامعة تل أبيب “إيال زيسر” متشوّقاً إلى “تغميس الحمّص” في دمشق، إلاّ أنّه ليس مستعجلاً عليه، لا سيّما أنّه على يقينٍ مطلق بأنّ سورية دولة ممزّقة وغير معنيّة بالحرب حالياً، وأنّ الهدف الأسمى لها حالياً هو السّعي لإقامة علاقات حسن الجوار مع الدّول المحيطة بها بما فيها الكيان، وفق ما أكّده “زيسر” في أكثر من لقاء وحديث، ومن ثمّ فإنّ الرّغبة “الإسرائيليّة” اليوم تتمثّل بوضع “الحمّص” على نار هادئة من شأنها أن يجعل “التّغميسة” فيه أكثر متعةً ولذّةً، ولهذا فإنّ “إسرائيل”، وفق كلام زيسر، تتابع بسبع عيون الرّئيس السّوريّ الانتقاليّ أحمد الشّرع، وبرغم ماضيه يمكن ويجب الوصول معه إلى تفاهمات تخدم مصالحنا، ولا تعرّض أمنَنَا للخطر، بخاصّة في ضوء حقيقة أنّ سورية دولة مدمّرة وعديمة جيش قد يهدّدنا، والحمّص في دمشق؟ سينتظر على ما يبدو أيّاماً أفضل.

ولما كانت سورية دولة ممزّقة وغير معنيّة بالحرب، كان لا بدّ لقوات الاحتلال الصهيونيّ أن تعتدي على أراضيها صباح مساء، ولم تكن الاستباحة الأخيرة لجبل المانع في منطقة الكسوة في محافظة ريف دمشق (27/8/2025)، والإنزال المظلّي فيها، المترافق مع تحليق للطيران واعتداءات أدّت إلى وقوع ضحايا وشهداء، وهو الإنزال المسبوق بتدنيس جنود الاحتلال لمناطق في الجنوب الغربيّ من ريف دمشق، وما رافقها من توغل في قرية “بيت جنّ” والسّيطرة على أجزاء منها بعد التّمركز في تلّ “باط الوردة” على سفح جبل الشّيخ، لم يكن هذا سوى حلقة جديدة من حلقات المشروع الصّهيونيّ التّوسعيّ القائم على تحقيق الحلم التّوراتي بإقامة “إسرائيل الكبرى”، ذلك الحلم الّذي أُعلن عنه منذ عقود، ويسعى نتنياهو اليوم إلى تحويله إلى واقع بعد أن نجح الصّهاينة وأعوانهم في إزالة معظم الرّؤوس المعادية له.

ولأنّ سورية تمثّل الحلقة الأهمّ والأكثر إستراتيجيّةً في هذا المشروع، كان لا بدّ من السّيطرة على مناطق حسّاسة فيها والتّمركز في مواقع ذات قيمة، كما هو حال جبل الشيخ الّذي بات تحت السّيطرة الكاملة لقوّات الاحتلال بعد التّمركز في تلّ “باط الوردة”، هذا العدوان والتّمدّد في الأراضي السّوريّة جاء بعد أيّام قليلة من اللّقاءِ الّذي جمع وزير الخارجيّة السّوريّ في الحكومة الانتقاليّة أسعد الشّيباني، بوزير الشّؤون الإستراتيجيّة الإسرائيليّ، رون ديرمر، في العاصمة الفرنسيّة باريس يوم الخميس (21-8-2025م)، برعاية المبعوث الأميركيّ إلى سورية، توم بارّاك.

ولم يكن هذا اللّقاء الأوّل بين مسؤولين سوريّين في الحكومة الانتقاليّة ونظرائهم الإسرائيليين؛ فقد عُقدت اجتماعات عديدة في العاصمة الأذربيجانيّة “باكو”، آخرها في 12 تموز 2025م أثناء زيارة الرّئيس الشّرع لأذربيجان، وقد أكّدت المعلومات والتّسريبات حينها أنّ الهدف الأساسيّ من هذه اللّقاءات هو التّوصّل إلى تفاهمات أمنيّة بشأن جنوب سورية للحفاظ على وقف إطلاق النّار بين الجانبين، وتأمل حكومة الاحتلال أن تؤدّي هذه الاجتماعات، وعلى رأسها لقاء باريس، إلى خطوات سوريّة أكثر جرأة في اتّجاه التّطبيع السّياسيّ والدّبلوماسيّ، بعيداً من أيّ التزام بوقف الاعتداءات الإسرائيليّة شبه اليوميّة على الأراضي السّوريّة.

التّوسع في الضّفّة واستهداف الدّولة الفلسطينيّة

بمعنى آخر، ما تريده “إسرائيل” هو تفاهمات أمنيّة وسلام مقابل الكلام والوعود، دونَ أيّ التزام بوقفِ التّوسّع والاعتداءات، وهو ما تؤكّده ممارساتها في الأراضي الفلسطينيّة أيضاً، وقد كان وزير الماليّة الإسرائيليّ، بتسلئيل سموتريتش، الأكثر وضوحاً حين أعلن في مؤتمر صحفيّ منتصف آب 2025م عن مشروع استيطانيّ جديد يربط مستوطنة “معاليه أدوميم” بالقدس، وهو المشروع الّذي يعني عمليّاً دفن فكرة الدّولة الفلسطينيّة، عبر مصادرة آلاف الدّونمات وإدخال أكثر من مليون مستوطن إلى الضّفّة الغربيّة، وإطلاق مشروعات استثماريّة بمليارات الدّولارات.

ويتمّ كلّ ذلك بالتّنسيق الكامل بين نتنياهو والإدارة الأميركيّة الدّاعمة لهذه السّياسات، كما صوّت الكنيست الإسرائيليّ في 23 تموز 2025م، وبأغلبيّة كبيرة، على مشروع قانون فرض السّيادة الإسرائيليّة على الضّفّة الغربيّة وغور الأردنّ، على أنّهما “جزء لا يتجزأ من الوطن التّاريخيّ للشّعب اليهوديّ”، وداعياً إلى اتخاذ خطوات إستراتيجيّة لتثبيت هذا “الحقّ التّاريخيّ” وتحقيق “الأمن القوميّ الإسرائيليّ”، وما يجري في الضّفّة وسورية ولبنان ليس سوى تنفيذ عمليّ لما رسمه نتنياهو في الخرائط الّتي رفعها على منبر الأمم المتّحدة أمام أعين العالم، قائلًا ضمناً: “هذه هي إسرائيل الموعودة، ونحن نعمل على تحقيقها خطوة خطوة حتّى نبلغ النّبوءة”.

ما وراء الجوار: الحلم الإسرائيليّ في أفريقيا والعالم

الرّغبة الصّهيونيّة هذه بالتّوسع والسّيطرة على مزيد من الأراضي لا تقتصر على دول الجوار، بل تمتدّ إلى الدّول ذات الأهمّيّة الجيوسياسيّة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ولعلّ هذا ما قصده ديفيد بن غوريون عندما تحدّث عن نظرية “حلف الدّائرة” أو “حلف المحيط”، القائمة على تطويق الدّول العربيّة والشّرق أوسطيّة عبر إقامة علاقات إستراتيجيّة مع دول مختلفة تضمن حضوراً إسرائيليّاً فاعلًا في محيطها الدّوليّ.

ولهذا أولت إسرائيل اهتمامًا كبيراً بأفريقيا، ولا سيّما شرقها، لما لها من أهمّيّة إستراتيجيّة، وساهمت في إذكاء الحروب والنّزاعات هناك لتسهيل السّيطرة والتّحكّم بالموارد والقرار السّياسيّ، وكانت إسرائيل مموّلاً رئيساً لعدد من الدّول بالسّلاح، بيعاً أو منحاً، وأغرقت المنطقة بالمستشارين والخبراء العسكريّين الّذين أشرفوا على التّدريب وإدارة المعارك، كما أقامت قواعد عسكريّة، منها قاعدة في إريتريا، لتوسيع وجودها في أفريقيا ومراقبة التّحرّكات برّاً وبحراً وجوّاً، وإطباق الخناق على البحر الأحمر وباب المندب، لتصبح منطقة القرن الأفريقيّ وحوض النّيل في قلب دائرة المراقبة والسّيطرة الإسرائيليّة.

 

الفشل العربيّ والتّقصير  في المواجهة

 

أمام هذه الوقاحة والصّلف، تبدو المشكلة العربيّة والإسلاميّة أكبر من أن تُختزل في ردود الأفعال الباهتة، فلا أحد ينظر أبعد من أنفه، ولا أحد يضع المصلحة العامّة فوق مصالحه الضّيّقة، حتّى وإن قادت هذه الأنانيّة إلى تقسيم الأوطان واستباحتها، أمّا التّضامن مع الشّعب الفلسطينيّ المذبوح في غزة، أو الضّغط الحقيقيّ على الكيان لوقف مسلسل الإبادة والتّجويع والتّهجير، فلا يكاد يظهر في الأفق إلا كشعارات وإدانات باهتة.

لقد فشلت الأنظمة العربيّة فشلاً ذريعاً في مواجهة المشروع الإسرائيليّ، كما فشلت في إدارة أزماتها الدّاخليّة، ما أتاح للكيان الصّهيونيّ استثمار تفوّقه العسكريّ واللعب على ورقة الأقلّيّات والمكوّنات، الّتي أخفقت معظم الدّول العربيّة، وخصوصًا المحيطة بفلسطين المحتلّة، في التّعامل معها بحكمة ووعي، لتتحوّل إلى ورقة رابحة في يد المشروع التّوسعيّ الإسرائيليّ.

* كاتب وباحث سوري

أحدث العناوين

اتفاق وقف إطلاق النار في غزة يدخل حيز التنفيذ

دخل اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ ظهر اليوم الخميس، وفق ما أفادت وسائل إعلام مصرية...

مقالات ذات صلة