بعد سنتين من العدوان المفتوح على قطاع غزة، أسفرت وساطات إقليمية ودولية عن تفاهم يقضي بوقف إطلاق النار. ورغم الرعاية الأميركية والمساهمة المصرية والتركية والقطرية، فإن الاتفاق سرعان ما تعرض لاختبارات حادة نتيجة خروقات متكررة من الجانب الإسرائيلي. لذلك تبرز الحاجة إلى قراءة متأنية لما تحقّق وما لم يتحقّ، وتحديد السبل لتحويل المكاسب المؤقتة إلى عناصر قوة دائمة.
تحليلات-الخبر اليمني:
وأفضى التفاهم إلى تهدئة نسبية في وتيرة العمليات العسكرية، لكن التجربة أثبتت هشاشة الضمانات الدولية؛ فقد وثّقت جهات محلية ما يقارب خمسين خرقاً منذ توقيع الهدنة حتى مساء 19 أكتوبر 2025، أدّت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى بين المدنيين.
هذه الخروقات تكشف عن محدودية قدرة الرعاة الدوليين على ضبط سلوك الطرف المعتد، خصوصاً في ظل غطاء أميركي مستمر للكيان الإسرائيلي، كما تكشف أيضاً أن التهدئة تحقّقت نتيجة قوى ميدانية تفاوضت من موقف القوة لا كرد فعل على التهدئة فحسب.
سياسياً، يبرز فشل أهداف الحرب الإسرائيلية المعلنة في القضاء على بنى المقاومة أو تهجير السكان، ما جعل وقف النار نتيجة فشل ميداني وسياسي لا انتصار مُعلن. ميدانياً، أثبتت المقاومة أنها حافظت على بنيتها وقدرتها على الصمود رغم الحصار والضربات، كما نجحت في إحداث توازنٍ تفاوضي جديد يجعلها طرفاً لا غنى عن مشاركته في أي تسوية مستقبلية. أما الضمانات الدولية فهي بقيت نظرية ما لم تُقرَّن بآليات رقابية قادرة على التنفيذ والردع.
تحققت مجموعة من المكاسب العملية للمقاومة، بدا أبرزها ثبات الجبهة الداخلية الفلسطينية وصمود بنية المقاومة، والإضرار بقدرات العدو عبر استنزافه في معارك المدن والأنفاق وعمليات الضرب داخل العمق. هذا الواقع أعاد إنتاج ردع نفسي وإعلامي للعدو، وساهم في تحقيق نتائج تفاوضية جزئية مثل تبادل الأسرى وفتح ممرات إنسانية مشروطة. ترجمة هذه المكاسب تتطلب تحويلها إلى أوراق تفاوضية وقواعد حماية إنسانية وسياسية تسمح بفرض شروط إعادة الإعمار ورفع الحصار.
إثبات المقاومة لدورها الفاعل أعاد الاعتراف بشرعيتها كلاعب محوري في الساحة الفلسطينية والإقليمية، وفتح مجالاً للضغط من أجل إنهاء الحصار وفتح المعابر وتأمين وصول المساعدات. كما أظهرت التجربة أن التغيير في ميزان النفوذ لا يقوم على الخسائر المادية وحدها، بل على القدرة على فرض شروط سياسية تجعل الطرف المنتصر يحدد من يفاوضه ومع أي ضوابط.
أول الدروس هو وجوب ألا تُرتكن ثقة مطلقة إلى رعاتٍ دوليين بلا آليات تنفيذ، بل يجب المطالبة بآليات رقابة ملزمة. ثانياً، الحفاظ على الجاهزية الميدانية والتكتيكية وتحويل الدروس الميدانية إلى برامج تدريبية. ثالثاً، أهمية التوثيق القانوني للانتهاكات لاستثمارها في المحافل الدولية. ورابعاً، تعبئة الرأي العام والإعلام لدعم المطالب الإنسانية والسياسية للمقاومة والشعب.
سياسياً، يجب العمل على توظيف التعاطف الدولي للضغط على الدول الضامنة لفرض آليات مراقبة فعالة وفتح المعابر وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار.عسكرياً، لا بد من نقل الخبرات الميدانية إلى مناهج تدريبية وتطوير تكتيكات تحمي المدنيين وتزيد كلفة أي عدوان مستقبلي. قانونياً وإعلامياً، يلزم إنشاء وحدات متخصصة لتوثيق الانتهاكات وترويجها أمام المنابر الدولية مع حملة إعلامية مستمرة تبرز الانتهاكات ومطالب الإصلاح. اجتماعياً وإنسانياً، يجب وضع خطط مرحلية لإعادة الإعمار والدعم النفسي والاقتصادي للمتضررين لضمان ثبات المجتمع وقدرته على الصمود.
وقف العدوان، وإن بدا نصرًا جزئياً للمقاومة، لا يمثل نهاية الصراع بل بداية مرحلة جديدة من البناء والاستعداد. المكسب الحقيقي يقاس بمدى قدرة الفصائل الوطنية على تحويل المكاسب الميدانية إلى استراتيجية سياسية متكاملة تضمن حماية المدنيين، رفع الحصار، وإعادة إعمار غزة على أساس قواعد واضحة وملزِمة.
إن تحويل التهدئة إلى إنجاز دائم رهين توحيد الجهود الوطنية، وتفعيل الضغوط الدولية، وبناء آليات حكم ومساءلة تقيّد المعتدي وتؤمّن مستقبلًا أكثر أماناً واستقراراً للشعب الفلسطيني.


