التغريبة التهامية بنكهتها الجديدة والرابعة على التوالي!

اخترنا لك

في شهر مارس من العام 2015م، نزحت أنا وأسرتي باتجاه عزلة الدانعي بمديرية خيران المحرق، قبلها كنت أسكن في مديرية عبس منذ العام 1992م – أي تاريخ ميلادي بالضبط- لم أفكر يومًا بأمر النزوح أو ما شابة ذلك. دق التحالف طبول الحرب، وبدت لهم أنها ستكون سهلة وفي ستة أشهر سوف تحسم، بعدها تم  إعلان حرض وما حولها منطقة عسكرية.

نزحنا كباقي الناس هناك، ومكثنا في النزوح سنة كاملة بأيامها ولياليها، توقفت أنا عن دراستي لتوقف مصدر الدخل الوحيد لأبي، كان أبي يوفر لنا مصاريف البيت من ما كان يدخره طوال سنين عمره، ناهيك عن نقود كان يأخذها من أصدقائه على هيئة قروض، مرت الأيام ولا جديد غير تأخر الحرب وإمعان التحالف في استهداف تهامة وغيرها؛ صرف أبي ما بحوزته من نقود، وصار يصعد إلى علو مرتفع من المكان الذي نسكن فيه، ويتجرد من كل مشاعر كبريائه ويذرف الدموع حتى تحمر عيناه، كنا لا نراه ولكنا نشعر به، كنت أسامر النجوم حتى خيل لي أننا والنجوم جامدين بلا حركة، كنت أسهر الليل وأنام النهار هربًا من صعوبة الحياة وضنكها.

لقد عشنا مرارة النزوح وقهره، أعرف جيدًا ما يعانيه النازحون من ألم وقهر بسبب تشريدهم من قراهم ومدنهم، وأخرها من مخيمات النزوح التابعة لهم، ما يحصل في منطقة بني حسن بعبس، كارثة إنسانية بكل المقاييس، والعارف بذلك المكان هو من يدرك حجم الخطر والكارثة التي قد تصيب هؤلاء البشر، الآن النازحون غادروا باتجاه منطقة الربوع وعبس ليبحثوا عن مكان آخر يستقروا فيه.

لقد توالت المصائب على اليمنيين واحدة تلو الأخرى، ما أن تنتهي أولها حتى يكون للثانية رائحتها من بعيد، تعكر مزاجك دائمًا، تلك الروائح التي لا تأتي إلا بالكوارث، وأي كارثة أعظم وأكبر من أن تجبر على ترك أرضك وبيتك، وتبيت بالعراء بلا غطاء ولا ساتر يحمي عائلتك من حرارة الشمس وقسوة البيئة هناك.

لم يخطر لي في يوم من الأيام أن أرى النازحين يدوسون أحجار الأسفلت بأقدامهم هربًا من الموت؛ تلك الصورة كانت للنازحين من مخيم بني حسن يمضون الكثير من الساعات مشيًا على أقدامهم، وهم يحملون الأخشاب وبقايا الطعام وقليل من الملابس على اكتافهم، يقتسمون ذلك الحمل الثقيل الرجال والنساء معًا، تلك هي حالة الهاربين من مخيمات النزوح بمنطقة بني حسن المحاذية لحيران بمحافظة حجة.

في منتصف السنة الماضية كتبت مقالًا عن زيارتي لمخيم بني حسن التابع للنازحين، وكان يحمل عنوان “تهامة المظلومية الكبرى لا تتكروها لوحدها!، وفي هذا المقال المنشور سابقًا والذي تداولته مواقع عديدة و نشر حتى في قناة بلقيس، تحدثت عن مظلومية تهامة وحالة التجريف التي يمارسها التحالف بحق التهاميين، وذكرت في مقالي السابق ما يلي :

 “لقد عمل التحالف على تجريف الحياة بشكل زمني مدروس، وجعل أبناء تهامة واليمن جميعهم يعيشون حالة الضياع هذه بشكلها المدروس والممنهج من قبلهم”.

تلك هي كلماتي التي وثقت بها مقالي السابق، والآن نرى ما يحصل بالضبط، حالة تشريد وتجريف للحياة تهدد المواطن المسكين والفقير بتهامة. ليبقى النزوح والتشرد هو الوجع الوحيد الذي يرافق اليمنين منذ سنوات أربع عجاف، بسبب الحصار المفروض عليهم برًا وجوًا وبحرًا.

إن تهامة اليوم تمر بحالة إنسانية لم تمر بها من قبل؛ والسبب أن الحرب تقترب من أكثر الأماكن اِحتِواءً للنازحين، في محافظة حجة “بني حسن،” وفي الحديدة تقترب الحرب من أكبر مدينة على الشريط الساحلي يسكنها أصحاب الطبقة الكادحة، وذوي البشرة السمراء من أبناء تهامة، ومن شاركهم العيش والمصير من أبناء اليمن ككل.

النازحون من حرض وحيران وميدي والمشنق والمزرق والملاحيظ وغيرها، إنهم يجولون بقاع الأرض التهامية بقليل من الأخشاب والثياب التي يستطيعون حملها، بات الأمر هناك في تهامة بمحافظة حجة لا يُحتمل؛ فقد باتت العمليات العسكرية لقوات التحالف هي معاناتهم الوحيدة في ظل غياب المجتمع الدولي عن توفير الحماية للمدنيين هناك.

“لقد تجاوز عدد النازحين الذين غادروا منطقة بني حسن 3000ألف أسرة ويزيد على ذلك، بعد أن تركوا عشرات القرى التابعة لهم، وكانت الوجهة الأبرز لهم هي قرى ومناطق مديرية عبس وأسلم وخيران وما جاورها”.

ليظل مصير الكثير من الأسر التي نزحت من مخيماتها مجهولًا، لا يمكن البت فيه ولا التفكير به، العراء واسع وألم القهر والوجع لا يطال إلا المواطن الفقير والمسكين فقط.

لقد فشل التحالف ومن معه من القوات العسكرية في توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة الضرورية، لقد عملوا على تجريف الحياة بصورة شبة يومية، رغم فشلهم في تأهيل حيران وميدي وغيرها كمساكن للمواطنين، حتى هم – اقصد جنود التحالف- حين يحاولون الراحة يغادرون إلى إحدى المناطق السعودية في حالة من العجب وغياب الشعور بحجم الوجع الذي ألحقوه بأبناء بلدهم وبني جلدتهم.

لم يعد التحالف يستطيع تقديم شيء غير مشاريع الموت بالجملة، فلا حياة يستطيع توفيرها للناس ولا تقدمات يستطيع حسمها على الأرض، صار مصيره بين رنة هاتف ليحرك مدفعه لقصف الناس، وبين رسالة جوال توقفه عن التقدم، ومن يكن ذلك هو حاله فليعلم أن الدنيا باقية لأهلها وأن ما يقوم به هو أمر التسليم لقادة لا يريدون الخير لهذا البلد ولا لأهله.

أحدث العناوين

أمريكا “الديمقراطية” تواجه المتظاهرين بالقناصة والمروحيات

أسقطت غزة ما تبقى من الشعارات الأمريكية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والتي لطالما اتخذتها واشنطن ذريعة للتدخل في الشؤون...

مقالات ذات صلة