العودة الخرساء

اخترنا لك

ليس كل عودة تحمل في طياتها استنطاقا لأحاديث الزمن الجميل، وما كل عودة تضمد جراحا منكوءة برتها الحرب وأثخنت في قتلها، وقلما تجد عائدا يحتضنه مفتقدوه، ومحال عودة مفقود ودعت روحه الحياة، تلك هي العودة الخرساء في نقيض (المدينة الفاضلة)، ولا أظن أن فلسفة  “الفارابي ” ستبلغ به – حين كتب عن نقيضات المدينة الفاضلة- أن يتصور مدينة ليس فيها إلا الرعب، والوجع، والمعاناة، والمجاعة، والمأساة، تطوق أرواح ساكنيها وتخنق قلوبهم.

 

ففي هذه المدن لا ينام شخص تحت مظلة نخرة لا تدفئه إلا أحزان تقض مضجعه، وهموم أشبعت فاقته، وحده في ضراوة البرد القارس يندب فتياته الأربع وقد أبت عليهن لعنة الحرب إلا أن تغادرن هذا الوجود أشلاء.

 

يفترش (ماجد غالب الواحدي52عاما) أحد أرصفة شارع صدام بالحديدة، ويلتحف تلك الأكداس الحالكة من اليأس والعجز تجثم على روحه، بعد أن فقد كل شيء بات يقضي أيامه في غيبوبة، يذهب ويجيء، ينظر ويسمع ويتكلم وكأنه ليس هو، كان مأخوذا مشدوها، ساهرا جفاه المرقد، مسهد نبا به المضجع، مكروبا يزفر دما، موجوعا باكيا يسكب دمعه ويريق عبراته، لم يبك ولم يصرخ، وقد رفض ذهنه أن يقبل فكرة موت بناته الأربع..

 

 

–  ليلة العودة  –

 

كانت الريح تهب قوية عاتية، تعصف بكل ما لامسته أو اصطدمت به، أدخنة الانفجارات المتكاثفة تحجب أنوار السماء ونجومها، الشارع مقفر موحش لا تكاد تسمع فيه وقع أقدام أو دبيب خطى وقد قرر (ماجد) العودة لمنزله بعد مضي أكثر من شهر على الفاجعة التي خلفته مشردا.

بات (ماجد) ليال طوال هائما ضال الخطى، جائعا يستجدي لقمة، بائسا يشتهي ابتسامة، ومع ذلك فقد أحس وهو يتسلل حائط منزله – في السلخانة ، المربع الخامس- أنه قد اهتدى لمرفأ وأوشك أن يستقر ليفرغ حمولة أحزانه، مداعبا قلبه ببعض ذكريات الزمن الجميل، وقف أمام أنقاض منزله البسيط يتأمل ذكرياته، ويندب فلذات كبده، وقد عاد – أخيرا – بعد طول هجر ومرارة فرقة، أخذ يتطلع أرجاء الدار كما يتطلع مهجر في الفلاة إلى قطرة ماء، إنه يقف على قيد خطوات من فردوسه الضائع ونعيمه المفقود.

 

استند(ماجد) على حائط الغرفة عابس الوجه  مسلوب الفؤاد، وراح ينظر للحائط كيف سمح لتلك القذيفة أن تتسلله وتصيب أرواح بناته، لقد كانت عودة خرساء لعالم عجيب، مليء بالضباب، تتراءى لعينيه وجوه صباياه بملامح غير واضحة، في وسط عالم افتراضي يعمه الخيال لا سواه، وكلما حاول (ماجد) أن يسلط عليها بصيصا من نور الذاكرة، ولت هاربة؛ فابتلعتها الظلمة، تأتي لأذنيه ما تشبه الهمهمة، وما أن يحاول سماعها جيدا حتى تفر متراجعة، تاركة خلفها صمتا وحيرة، لقد ضاعت تلك الأيام الجميلة بما حفلت من لذة وألم مخلفة ذكريات يصعب استرجاعها.

 

 

 

ما باحت به ذاكرة ماجد

 

في تلك الزاوية من الغرفة، جلست (رفيدة17عاما) وحولها أخواتها الخمس :(أمة السلام14عاما) و(أمة الحكيم، وتوأمها أمة الملك12عاما)و (أمة الوهاب10أعوام) و (نزيهة8أعوام)- تضمهن جدران الغرفة الأربعة، وهي توزع بينهن الطعام لتبقى هي الأخرى جائعة، فما كان لديهم من الطعام لا يكفي .. فبعد طلاق والديها أصبحت رفيدة هي الراعية والمربية لأخواتها، كانت تمدهن بالحنان الذي افتقدنه، تضمد جراحهن، تواسيهن، تبعث في قلوبهن الأمل  .. وهذا ما يمكن استنتاجه حين تقرأ مذكرات أبيها، وتخاطبك إحدى أختيها الناجيتين.

يقول ماجد:” لقد كنت أستمد منها العزم والثبات ، تعينني على نوائب الدهر، كانت مصباحا يضيء دروبي، ومشكاة تدفء برد عمري … |ويابرد عمري لصيف الحنين __ ويا دفء أيامي الشاتية|”.

لا يدري والدها كيف له أن يعيش بعد أن فقد رفيدة وأخواتها، كيف سيلملم شعث أيامه ولياله بعد أن أصبح طريد الكوابيس التي تغتاله كل ليلة، ولكن على الرغم من ذلك الصمت والحيرة اللذان يبدوان على وجهه، إلا أن قلمه كان قد أفضى ببعض ما ارتكبته القذيفة تلك الليلة .

 

 

“ما ارتكبته القذيفة”

 

عاش ماجد – وغيره الكثير من الموظفين – بعد انقطاع المرتبات، حياة تقشف، يعاني من شظف العيش وعدم توفر فرص العمل؛ مما أجبره على العمل بالأجر اليومي هنا أو هناك، حسب ما تقتضيه أوضاع المدينة، إلا أن أغلب أيامه كان لا يجد مكانا يعمل فيه …

 

في مساء السادس عشر نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٨م، عاد ماجد يحمل البشرى بكيس خبز وثلاث بيضات، لعله بذلك يطفئ لهيب جوع صباياه الست اللائي ينتظرنها بفارغ اللهفة.

 

يصف ماجد ما بعد الفاجعة ” لقد غدا كل شيء بلا معنى، وكل لحظة أعيشها في هذا الوجود موت مستحيل، لكم تمنيت أن أكون بجانبهن تلك اللحظة، يوم أدمى قلبي ومزق حشاشاتي المكلومة”.

عن نفسي، لا ألومه على ذلك، لأن أي شخص يمر بما مر به (ماجد)، حتما سيتمنى أضعاف ما تمناه ذلك الأب المفجوع .

 

لقد وقف ماجد مذهولا من هول الصدمة، غير قادر على الحراك، عاجزا عن نطق كلمة واحدة، مر المنقذون من أمامه يحملون رفيدة وقد باتت جثة هامدة .

 

يقول ماجد :” مر المنقذون يحملون رفيدة ، لم تكن رفيدة ، بل جسد متحطم  منهك يكاد يكون قد فقد روحه ”

لم يكن السيد (ماجد) يعلم أن قلب رفيدة مازال ينبض، نبضاتها خافتة هزيلة.. كانت رفيدة عاجزة تماما عن اصدار أي أنين، سوى أنفاس تزفر بالحياة.

لم يعتد أبوها أن يراها عاجزة هكذا ..”كانت تمضي واثقة الخطى كغزال أهيف، وصوتها الرخيم يشجي الروح ويطرب الفؤاد، كانت تتلو كلماتها آيا على ركام قلبي اليائس فيحيا دونما اعتبار لحجم الأسى الذي ارتعت منه… قدها الممشوق أمسى  متحطما، وسحنتها الألاء باتت متصدعة من جور الشظايا وعتو الانفجار  ”

 

لقد كنت مستغربا مثلك -أيها القارئ- كيف لأب أن يبلغ به الحب ليصف ابنته بكلمات جزلة كهذه، وحين علمت أن رفيدة هي من شجعت والدها لتحضير رسالة الماجستير في الإدارة والإشراف التربوي، وتدخر مبلغ500ريال يوميا من مصروف أخواتها لذلك، أدركت وجع ماجد وعظمة رفيدة .

 

دعونا لا نذهب بعيدا ، ففريق الإنقاذ – أبناء الحي- كانوا يحملون أمة الحكيم، بنصف رأس .. ولك أن تتخيل فتاة صغيرة في الثانية عشرة من عمرها قد سحقت الشظايا النصف العلوي من رأسها، مبتورة الساقين وذراعها اليسرى أيضا..

اووووه نعم، لقد كانت مجدوعة الأنف أيضا، فأمة الحكيم مصابة بالربو، لربما ابتدأت القذيفة بجذع أنفها ليكون اغتيالها أسهل ..

وكعادة ماجد في مذكراته، يرثيها بقوله”كانت أمة الحكيم تبتسم ابتسامة صفراء تخفي بها آلامها، رغم سنها كانت تمتاز برجاحة عقلها وصبرها وذكائها غير العادي، كانت تملأ الدار فرحا وسرورا بأنغام ضحكتها الطروبة ” .. بهذه الكلمات حاول السيد (ماجد) إخفاء آلامه وحبس مدامعه.

 

وفي حين يحاول ماجد استعادة أنفاسه من ضرواة المشهد الدامي حتى تلتها طعنة نجلاء شقت صدره .. ولعلي هنا سأترك لك الخيال لتصور تلك اللحظة التي عاشها ماجد حين مر المنقذون حاملين اثنتين من بناته (أمة السلام) و (أمة الوهاب )كانتا متعانقتين، تحتمي أمة الوهاب بصدر أختها أمة السلام – لعلها تنجو من غدر القذيفة وقد ضمتها لصدرها بحنان، ولكن طغيان الانفجار لا يرحم .. لقد ودعتا بعضهما وداعا أخيرا، وتعاهدتا أن تموتا متعانقتين ..

لحظة كهذه بآلامها الفضيعة، ومشهدها التراجيدي لن تمحوها الإنسانية من ذاكرتها.

 

 

“عفاهما الموت من ضريبته”

 

أستار الليل أوشكت تسدل، والشفق الأحمر كالدم القاني المنساح في تلك الغرفة يوشك أن يودع المدينة، يمر المنقذون بجسدي نزيهة وأمة الملك، وقد عفاهما الموت من ضريبته، أما الشظايا فقد أفرغت كل قواها محاولة أن تلحق الفتاتين بأخواتهن .

 

يقول ماجد ” مر المنقذون بنزيهة .. وجسدها المتهالك، وقد نال من الشظايا نصيبه الأوفر، إلا أن قلبها الصغير  مازال ينبض بالحياة، أنين نزيهة هو فتيل الأمل الذي بدد ظلمات قلبي، لقد ظلت نزيهة صامتة لثمانية أعوام .. سكوتها يهد أوصالي، لا تنطق ولا تجادل، كل ردود أفعالها صمت ”

إصابة نزيهة بالغة للغاية، جسدها مليء بالشظايا، كانت مثخنة بالدماء وقد شقت بطنها بفعل سكاكين القذيفة ..لكني لا ألوم ماجد حين تملكه الأمل؛ فأنين نزيهة الخافت جدير بأن يخلق الأمل في قلب أب مرت أمامه أشلاء لجثث أربع من صباياه.

 

” نزيهة..لقد بعثت فيّ الأمل من سباته، وهيأت لي أريكة أن أحيا لأجلك، يممت روحي بنور عينيك، أملي بعيشك أنساني كل وجع، طببت جراحاتي، وداويت أحزاني “.

 

يتابع السيد ماجد “واجتازتني أمة الملك – وسواعد المنقذين تحملها- بجسمها الرشيق وعينيها الغائرتين ، وهالتها الذهبية تلمع بنور الحياة، إلا أن سكاكين القذيفة كانت قد انهالت عليها أيضا”

” أمة الملك!! ..ناديت عليها بصوت موجوع يملأه الأسى ، فأجابتني بنظرة هزيلة محطمة، فكان لابد أن أبقى على رصيف الحياة الموحش، أتلوى من شدة البرد، وأجابه وحش المعاناة القاتل”.

 

 

الإسعاف في اليمن محال

 

لن تصدق – عزيزي القارئ – إن قلت لك أن إسعاف الضحايا كان على متن دراجة نارية، ولكن تلك هي الحقيقة، ففي اليمن لا يحصل الفقراء على أدنى اهتمام، فقط إما أن تنقذ روحك بنفسك أو تموت ..

دراجة نارية تنقذ الموقف، بعد أن فشل المنقذون في الحصول على سيارة إسعاف، قرر أبناء الحي نقل الجثث على دراجاتهم النارية .

نقلت أمة الملك لمستشفى السلخانة، فقد كانت الأقل ضررا من بين أخواتها .

أما بقية الجثث فتم نقلها لمستشفى الثورة العام بالحديدة، وآسف منك إن قلت لك بنفس الطريقة، وحدها الدراجات النارية تجتاز مسافات شاسعة حاملة على متنها جثث لخمس فتيات لطيفات أكبرهن في السابعة عشرة، وآخرهن لم تبلغ التاسعة بعد.

 

قبل الحادثة بيومين

 

جلست رفيدة – وقت الظهيرة – بجانبها أخواتها الخمس، كانت قد أصيبت بعيار ناري مباشر قبل ذلك بأيام قلائل أثناء مواجهات عنيفة بين طرفي الحرب في اليمن: جماعة الحوثي (أنصار الله) وقوات التحالف العربي (ألوية العمالقة كاسم خاص )، أصيبت في إثرها بجرج طفيف في يدها اليسرى.

لاحظت رفيدة حالة الخوف التي تسيطر على قلوب أخواتها، الذعر يملأ المنزل طوال الوقت، لذا حاولت رفيدة أن تنقذ أخواتها من ذلك الجو المرعب والسكون المخيف؛ فراحت تحكي على مسامعهن قصص الصبر والتجلد، وتهمي عليهن ببعض النكت والنوادر المسلية، أرادت أن تقتل شبح الخوف الحائم على قلوبهن، ليس من أجل هذا فحسب، بل لتلهيهن عن ضراوة الجوع الذي أصابهن؛ فقد بتن تلك الليلة دون عشاء وأفقن وما في الدار ما يسكن لهيب جائع ..

في تلك اللحظات التي تسللتها أجواء الفرح والسرور، كانت أمة الوهاب تحبس دموعها في محاجرها، وبدأت تحكي حلمها وهي تجهش بالبكا.

لقد رأت أمة الوهاب أنها مع أخواتها في بستان كبير، وفي وسط البستان قد بني قصر مشيد لم تكن قد رأت مثله من قبل، كن يلعبن في ذلك البستان ويلهون تحت أشجاره الكثيف العالية، كان والدها ينادي عليهن بحرقة، وأناته وآلامه تصهر صدره الدافئ وقلبه الحنون، وما بين لحظة ولحظة ينادي احداهن والبكاء لا يفارق صوته.

 

رفيد – بفطرتها الذكية- لم يغب عنها تفسير ذلك الحلم، ولما عاد والدها كانت رفيدة في غاية الحزن والوجع، فقد أدركت أن شيئا ما سيحدث .. وقد حدث ما توقعته رفيدة .

 

محاولات يائسة

 

هبطت على قلوب الأطباء سكينة خرساء، تجللها هيبة الموت الهادر، كلهم حبسوا أنفاسهم كأنهم يصغون إلى رفرفة أجنحة خافتة، فقلب رفيدة كان في صمت رهيب .

 

هنا في أحد أروقة مستشفى الثورة بالحديدة، أخذ الطبيب – وهالة القلق تطغى على وجهه-  جهاز الصدمة الكهربائية، لعله ينقذ قلبها من الغرق.

أطلق على صدرها عدة صدمات كهربائية، فبدأ قلب رفيدة يتسلل بخطوات شاردة حديقة الحياة، ابتسم الأطباء، وابتدأوا ينتزعون شظايا الموت من جسدها ..

 

استمرت العملية لأكثر من خمس ساعات .. تسامر فيها رفيدة الآلم، تصارع الموت ما بقي من عمرها، خمس ساعات وانقطع اسم رفيدة من هذا الوجود .

لحقت رفيدة بأخواتها، لقد ظلت رفيدة في حيرة من أمرها.. أتترك أخواتها للموت وتبقى في هذه الحياة البائسة، أم تلحق بهن لترعاهن في ذلك الوجود ؟؟

 

لم تستمر حيرة رفيدة لساعات قليلة حتى قررت اللحاق بهن، فالحياة بدونهن لا شيء بالنسبة لها .. لحقت رفيدة وتركت والدها يصارع الألم والوجع مشردا في أزقة وشوارع المدينة.

 

رغبة موت يائسة

 

كان مبضع الحياة يمارس أسمى واجباته في جسد أمة الملك، ينتشل من أعضائها المهترئة شظايا القذيفة القاتلة، لم يكن مبضع واحد يكفي لانتزاع الشظايا؛ فقرر مشاركة مباضع أخرى لإنقاذ جسدها الغض .

كانت أمة الملك فاقدة الوعي تماما، والأطباء يبذلون جهدا دؤوبا كي يستعيدوا روحها المنذرة بالرحيل ..

37 شظية، إجمالي الشظايا التي انتزعت من جسد أمة الملك، إصابتها كانت طفيفة إذ لم تصب أحشاؤها الداخلية، وبعد جهد جهيد خرج الأطباء يحملون بشرى نجاح العملية، والمريضة لا تزال بحالة غيبوبة ولن تستفيق إلا بعد عدة أيام .

وبعد صراع دائم مع الموت، أفاقت أمة الملك، وعاد قلبها ينبض بالحياة، لكن الكوابيس لاتزال تقض مضاجعها، وحالتها النفسية صعبة للغاية، لقد تغيرت كليا، أصبحت كئيبة حزينة طوال الوقت، لا تنطق بكلمة، قلبها مازال يقطر دما، تتمنى الموت ولكنها يئست أن تموت ..

كيف لا، وقد فقدت أربعا من أخواتها جملة واحدة، كيف لها أن تعيش وتوأمها (أمة الحكيم) في وحشة القبر وعالم النسيان، جميع ذكراها عالقة بهن ..

هكذا تعيش أمة الملك، في عالم الأموات إذ مازالت تنبض بالحياة .

 

 

وجاءت قذيفة الموت

 

بدأت الشمس تتلاشى رويدا رويدا، وهبات النسيم تأتي من جهات متعددة تحمل رائحة البارود التي ملأت أرجاء المكان، أزيز الطائرات يحدث جلبة مرعبة، ودوي الانفجارات هنا وهناك، كنا قد اعتدنا على ذلك؛ فكل يوم نعيش تلك الأجواء الصاخبة، الجميع لا يعلم ما يخبئ له القدر في ثناياه، والموت أقرب منا إلينا، جميع من في المدينة يعيشون في ذهول تام، الجميع يتوقع أن لا يرى شمس يوم جديد، سكون وهلع، حزن ووجوم، رهبة تجتاح قلوبهم وتعصف بآكام أرواحهم، كانت الحديدة أقرب ما نسميه (مدينة الأشباح)؛ فالحرب اللعينة جعلت الجميع ينزح للمجهول .

كان مساء السادس عشر من نوفمبر خريفيا بامتياز، إذ لم تكن تتساقط أوراق الشجر فقط، كل شيء هنا يسقط فجأة، القذائف، القنابل، الصواريخ، عيارات نارية راجعة، والأسوأ من ذلك تساقط الأرواح، جثث قتلى، أشلاء ضحايا، كل شيء موجع هنا .

 

تقول أمة الملك أن عقارب الساعة كانت تشير إلى الخامسة والربع، وهي وأخواتها الخمس يتهيأن استعدادا لصلاة المغرب، وكل واحدة منهن تلتف بثياب الصلاة البالية ، والخوف يملأ المدينة .

لقد كن ينتظرن صوت المؤذن”حي على الصلاة”، فيما قذائف الموت تملأ السماء والمواجهات أعنف من كل يوم، وأطراف الحرب العقيمة يتباهى كل منهم بعداد القتلى التي خلفتها حربهم الضروس عبر شاشات التلفاز .

 

تتابع أمة الملك ” فجأة ودون سابق إنذار، جاءت قذيفة الموت تتسلل جدار الغرفة التي كنا جالسات فيها، انفجرت انفجارا مدويا افقدني جميع حواسي ..بعدها أفقت في مستشفى السلخانة.

 

 

في مستشفى الأمل العربي

 

بعد اجراء عدة عمليات فاشلة في مستشفى الثورة، قرر الأطباء نقلها إلى مستشفى الأمل العربي لتتلقى نزيهة رعاية طبية أفضل .. فالعادة جرت في بلادنا أن المستشفيات الحكومية رديئة الخدمات بخلاف المستشفيات الخاصة .

 

ترقد نزيهة في غرفة العمليات تعاني آلاما أنستها الحياة، حالتها مرثية للغاية، كان جسدها ممزق بشكل مقرف، بطنها مشقوقة بفعل إحدى الشظايا التي مزقت أمعاءها الغليظة، في تلك الأثناء قرر الأطباء عمل أنبوب للإخراج في شقها الأيسر، نجحت العملية، ونجت نزيهة من كمائن الموت، لكنها حتى لحظة كتابة هذه القصة طريحة الفراش فاقدة الوعي، إلا أن ابتسامتها الذابلة في منحدرات وجهها الجميل تملأ المكان طربا وأنغاما، فقلب والدها المكلوم، يشتهي احتضانها ذات يوم .

 

استفاقت نزيهة استفاقة واهنة، وهمست بصوت ضرير :”رفيدة” .تبحث عن رفيدة التي عوضتها حنان الأم

“بابا .. فين البنات؟؟” قالتها  – بلهجة عامية- وهي لا تعلم أن سوأة الحرب قد عاثت بكل جميل .

لقد نالت الحرب منا يا ابنتي، لكنه أخفى عنها كل ذلك، واكتفى بدمعة حارة وعذر واه اختلقه كي يطمئنها “خواتك بالمدرسة، يا نزيهة”

وعادت نزيهة لغيبوبتها فلعلها تلقاهن في عالم الأرواح، عادت لسكونها الرهيب دونما حراك، سوى زفرات تدفء بهن حياة والدها القارسة .

 

 

منحدر العودة

 

جاءت (رفيدة ) تحمل كأس ماء بارد ، أخذ ماجد الكأس إلا أن أشعة الشمس حطت على وجهه فأفاق من سباته، أخذ يقلب نظره في تلك الغرفة الموحشة، وقد رسمت دماء بناته وأدمغتهن المتناثرة على جدران الغرفة -لوحة شلال الدم اليمني النازف، تزعزع كيانه وارتعدت أوصاله، وصار ينادي على رفيدة  ” إذا ما ذكرتك أنسى المصاب … وأنسى جراحاتي العاتية” ..

مالذي جاء بي إلى هنا ؟ ..

فقد آثر ماجد افتراش الأرض والتحاف السماء تحت مظلته النخرة، واستعذب العيش تحتها مكرهاً عن أن يعيش في هذا المنزل المشؤوم، عاد هذه الليلة وكان منحدر العودة مخيفا هشا، لم يجد منه سوى الأوجاع التي تدك قلبه وأوصاله …

أخذ ماجد أدراجه ليزور نزيهة التي ما زالت تصارع الموت في المستشفى، وحمل آلامه وأحزانه ليعلم العالم كيف أصبح ماجد وغيره جراء هذه الحرب العقيمة التي قضت على كل شيء، ويحكي بشاعة الجريمة التي حولته إلى مشرد ..

 

 

ليس ماجد وأسرته فحسب من تجرع مرارة الحرب، هناك آلاف العائلات يعيشون كل يوم سكرات الموت الموزعة على شكل قذائف أو صواريخ أو مجاعة أو أمراض …

 

 

سحقا للحرب ، وسحقا لتجارها….

أحدث العناوين

انفجارات في مدينة أصفهان الإيرانية..ماذا تقول الأخبار الأولية

تحديث: فوكس نيوز: مصدر أمريكي يؤكد الضربة الإسرائيلية داخل إيران، ويقول إن الولايات المتحدة لم تكن متورطة، وكان هناك إخطار...

مقالات ذات صلة