قناة السويس.. والمعركة مستمرة..

اخترنا لك

معن بشور:

روى لي صديق مصري كبير كيف استشاط الرئيس المصري الراحل حسني مبارك غضباً من شمعون بيريز رئيس الحكومة الإسرائيلية في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، حين علم أن بيريز قد جمع عدداً من الأمراء ورجال الأعمال الخليجيين المشاركين في المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا المنعقد يومها في الدار البيضاء بحضور بيريز وممثلي حكومات عربية، وقال لهم بيريز يومها: ما لكم ولمصر والعرب، لقد جربتمونهم على مدى نصف قرن، فماذا  جنيتم منهم، تعالوا إلينا نتعامل ضمن معادلة المال من عندكم والخبرة من عندنا (الكيان الصهيوني) واليد العاملة من مصر والدول العربية.
وقال لي ذلك الصديق أن مبارك اتصل يومها بالرئيس الراحل حافظ الأسد الذي كان يقاطع من موقف مبدئي مثل هذه المؤتمرات التي انعقدت في ظل الموجة الثانية من التطبيع بعد اتفاقات أوسلو ووادي عربة، ودعاه إلى العمل لمنع انعقاد “المؤتمر التطبيعي الرابع” المقرر انعقاده في الدوحة انذاك، واتفقا على التواصل مع الملك السعودي فهد بن عبد العزيز الذي لم يكن يخفي انزعاجه من التعظيم الأمريكي والإسرائيلي لدور قطر الإقليمي، واتفقوا على عقد مؤتمر قمة ثلاثي في الاسكندرية لمعارضة المؤتمر آنذاك، وهو اتفاق تلاقى يومها مع تعاظم الحركة الشعبية العربية بكل تياراتها المناهضة للتطبيع..ففشل المؤتمر التطبيعي الرابعة وتوقفت تلك الموجود يومها ليعاد استئنافها اليوم بعد الوهن والتميز الذي أصاب حال الامة.
لم يكن انزعاج الرئيس مبارك وليد تلك اللحظة، أو ابن ذلك الاجتماع الخطير بين بيريز وبعض الخليجيين، بقدر ما كان ترجمة لقلق مصري قديم يرى أن تل أبيب تسعى بكل الوسائل لتحجيم دور مصر العسكري والسياسي والأمن والاقتصادي والثقافي في البلاد العربية، بل أن قيام الكيان ذاته كان هدفه إقامة حاجز بشري يفصل مشرق الوطن العربي عن مغربه، وحصوصاً  مصر عن بلاد الشام..
فالعقل الاستراتيجي الصهيوني يدرك أنه لا أمن حقيقي للكيان الصهيوني ولا استقرار ولا ازدهار، ما دامت مصر العربية قوية متماسكة، حتى ولو عقد الحاكم فيها أكثر من اتفاق مع هذا الكيان، فالصهاينة ومعهم أسيادهم في واشنطن، هم أدرى الناس بقيمة هذه الاتفاقيات وقدرتها على الصمود مع تغيير في موازين القوى، ولعل هذا ما يفسّر حجم الضغوط الخارجية والداخلية التي واجهتها مصر في العقود الأخيرة بهدف إضعافها وافقارهاو تحجيم دورها وشل قدرتها على مواجهة المشروع الصهيوني والمطامع الاستعمارية.
من أبرز الخطوات التي تعتقد تل أبيب ومعها واشنطن وعواصم الغرب ضرورة اتخاذها لتحجيم دور مصر، هو نزع سلاح الممرات المائية التي تسيطر عليها سواء في خليج العقبة (الذي كان قضيته حاضرة في حربي 1956 و 1967)، أو في قناة السويس التي بسببها اندلعت الحرب العدوانية الثلاثية (البريطانية – الفرنسية – الإسرائيلية) على مصر عام 1956، والتي تم اغلاقها لسنوات عديدة بعد حرب 1967، خصوصاً مع وصول القوات الإسرائيلية إلى الضفة الشرقية للقناة.
ويتذكر الخبراء الاستراتيجيون  في الامن القومي في مصر، ولاسيّما في القوات المسلحة المصرية، وثيقة أميركية  عمرها مرة عام تم الكشف عنها مؤخراً وتشير إلى ضرورة إنشاء ممرات بحرية بديلة بين البحر المتوسط والبحر الأحمر يتم من خلالها الاستغناء عن قناة السويس كممر تجاري إجباري بين القارتين الأكبر في العالم، أوروبا وآسيا، والتي يمر فيها ما يقارب 1/5 من التجارة العالمية..
فإذا كان الهدف من إنشاء الكيان الصهيوني، كما أوصى رئيس وزراء بريطانيا في أواسط القرن التاسع عشر (1840) بالمرستون، هو فصل إفريقيا العربية عن آسيا العربية، فأن هذا المشروع لا يكتمل إلا بسيطرة الغرب ومعه الكيان الصهيوني على الممرات التي تصل آسيا وأوروبا، ولاسيّما عبر قناة السويس ومعها باب المندب..وهذا ما يفسر الحروب المستمرة في اليمن وعليه ايضا
ومن هنا  لا يمكننا فهم إغلاق قناة السويس لأكثر من عشرة أعوام، وكذلك فهم محاولات إغلاقها اليوم من خلال عملية غامضة بإغلاق سفينة ضخمة فيها  لتعطيل حركة الملاحة في القناة إلا في إطار هذه الاستراتيجية التي تقوم على ركيزتين هما التطبيع الصهيوني مع بعض الدول العربية، لاسيّما الخليجية منها، وثانيهما تطويع بقية الدول العربية، لاسيّما مصر وسورية ولبنان والعراق واليمن والجزائر وليبيا ودائماً فلسطين..وهو ما نراه من محاولات دموية وغير دموية مرعبة في هذه الاقطار
وفي إطار هذه المشاريع الاستراتيجية الخطيرة يقرأ المصريون المخططات الرامية لوصل ميناء أشدود الصهيوني على البحر المتوسط، بميناء إيلات على البحر الأحمر، كما لإقامة خطوط لأنابيب الغاز اولنفط تصل مصادر النفط في الجزيرة العربية والخليج بمرافىء صهيونية تتولى تصدر الغاز والنفط من  على البحر المتوسط إلى الدول الأوروبية، خصوصاً مع وجود اتفاقات تشير إلى بناء خطوط عملاقة لإيصال الغاز الروسي إلى دول كألمانيا وإيطاليا، وهو ما تسعى الإدارة الأميركية بكل الوسائل لمنع تحقيقه..
في ظلّ هذه المعلومات والتحليلات، من حقنا أن نستنتج أن من أبرز أهداف ما يسمى” بالاتفاقات الإبراهيمية”للتطبيع التي تسعى إلى إقامة علاقات صهيونية مع دول العمق الاقتصادي لمصر في الخليج، ودولة العمق الاستراتيجي لمصر في السودان، ناهيك عن دولة العمق الشمال إفريقي لمصر في المغرب وليبيا وصولاً إلى تونس والجزائر، هو محاصرة مصر ومنعها من النهوض الاقتصادي والسياسي والعسكري، لأن تل أبيب وعواصم الغرب الاستعماري يدركون جيداً أن في نهوض مصر نهوض للعرب والمسلمين، وفي البال دائماً تجربتان لا يمكن أن ينساهما العرب، تجربة محمد علي وابنه ابراهيم باشل في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر،  وتجربة جمال عبد الناصر والمد القومي العربي الذي هزم حلف بغداد  ومشروع إيزنهاور وأقام أول وحدة عربية بين مصر وسورية.
قد تكون هذه التحليلات ضرورية من أجل أن ينهج أصحاب القرار في مصر سياسة جديدة تعيد مصر إلى دورها، وأن يتصرف أصحاب القرار في الدول العربية والإسلامية على قاعدة أن نهوض مصر هو نهوض للأمّة كلها..بيعملوا كل محاولات إضعافها وتهميش دورها.
في خمسينيات القرن الماضي كانت المعركة حول قناة السويس هي بوابة النهوض الوطني والقومي والتحرري في مصر والإقليم ودول العالم الثالث، فهل تكون معركة الدفاع عن قناة السويس اليوم، كما معركة الدفاع عن باب المندب، هما مفتاح الانتقال إلى عصر الاستقلال الحقيقي لأمّتنا والإقليم والشعوب المناهضة للهيمنة الاستعمارية.
كاتب لبناني

الخبر اليمنيرأي اليوم

أحدث العناوين

أمريكا “الديمقراطية” تواجه المتظاهرين بالقناصة والمروحيات

أسقطت غزة ما تبقى من الشعارات الأمريكية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والتي لطالما اتخذتها واشنطن ذريعة للتدخل في الشؤون...

مقالات ذات صلة