أن تفوز اليمن على السعودية كرويا.. الدلالات والمعاني

اخترنا لك

م حلمي الضالعي

اليمن ذلك المجهول… هكذا عنون الكاتب المصري الكبير الراحل أنيس منصور كتابه  عن رحلته إلى اليمن الشمالي في الحقبة الناصرية المجيدة لتغطية أوضاع الجيش المصري الذي كان حينها يحاول تأمين الجمهورية الفتية في صنعاء من هجمات الملكيين الذين كانوا يحاولون بإستماتة إستعادة ملكهم — الذي دام ألف سنة وخمسون عاما —بدعم الشقيقة الجائرة ومن خلفها أمريكا وإسرائيل أعداء عبدالناصر والعرب حينها وإلى اللحظة

إلى تلك الحقبة التي ألف فيها أنيس منصور كتابه كان اليمن مجهولا على الأقل الجزء الشمالي منه حيث تعاقب عليه الأتراك والإمامة لقرون طويلة حتى جعلوا من ذلك اليمن ثقبا أسود منغلق على نفسه لا يصدر عنه أي قدر من النور، وأنا للضوء أن يغادر الثقب الأسود وماكان لقوة أن تخترق هذا الظلام الأزلي إلا إذا كانت قوة عبدالناصر الذي كانت صورته تعطى لتعلق كتميمة لفك الربط وللحماية من السحر والعين

وهاهو اليمن وبعد أكثر من ستين عاماً يعود كما كان مجهولا ومغلقا لا يصدر عنه أي وميض الإ ما ينبعث عن القذائف التي يتبادلها أطراف الحرب الدائرة فيه منذ سبع سنوات

ثم هاهو وميض يصدر في هذه السماء المكتئبة بفوز على السعودية في مباراة كرة قدم ويختطف منها بطولة كانت على ثقة من الفوز بها!

مثل هكذا حدث يحصل كثير وكل يوم تقريبا يفوز منتخب على منتخب، وفريق على فريق، فما بال فوز اليمن على السعودية يمكن أن تكون له دلالات ومعاني؟ ولماذا لا يبقى فوز اليمن سطحيا؟ ولماذا على من يحلله أن ينظر إليه كحدث غير عادي؟ ولماذا عليه أن يسبر أغواره ولماذا عليه في التعليق على حدث رياضي كهذا أن يستحضر التاريخ والجغرافيا والسياسة والماضي والحاضر والأديان والمذاهب وكل ما لايمت إلى الرياضة بصلة؟

واحدة من فقرات الإجابة هي أن هذا المنتخب اليمني الصغير المتوج لم ينشأ أفراده كما نشأ أطفال العالم،

فهؤلاء الصبية جاءوا من رحم المعاناة من أعمقها لجة وظلاما، جاءوا من أوساط شعب يتعرض لأكبر عملية طحن وقتل وتجويع وكسر إرادة عرفتها البشرية طوال تاريخها من عصور الإنسان الزاحف مرورا بالإنسان المنتصب وصولا إلى إنسان الهومو.

هذا المنتخب لم يأتي من قاعات أكاديمية برشلونة ولم يمر خلال فترة نموه برياض الأطفال ولم يتعود أن يحصل صباحاً على كوب حليب صحي تقدمه له معلمة في مدرسة، فضلاً عن أن يجد هذا الكوب في منزله الذي يرى فيه والده ووالدته يضويان ويغزوهما الشيب هما وخوفا وألما ووجعا فيبدوان كهلين وهما في ربيع عمريهما، إذ أنهما يحملان من الهموم والديون ما تنوء بحمله جبال زاجروس وأطلس وهيجة العبد،  ولا تثريب عليهما فهما إن تمكنا من توفير وجبة غداء لأطفالهما اليوم فلن يجداها غدا، وأن توفر لهما الدقيق لم يجدا الغاز أو الماء ولربما تعذر عليهما العثور على الملح

كيف لأطفال جاءوا من هذه البيئة مادون البدائية أن يفوزوا على منتخب — جاء لاعبيه من شعب غني مترف — يتغذى اللاعب منهم تحت إشراف خبراء تغذية ويحصلون على وجبات لم تكن لتخطر على بال نظراؤهم اليمنيين حتى في أحلامهم؟ لكن هذا قد حصل وفاز أولئك الصبية وعلى منتخب السعودية، التي يراها معظم اليمنيون — على الأقل في السنوات الأخيرة —أنها تلك الجاره القريبة لكنها البعيدة المستعلية المترفة التي تملك الكثير من الأموال فلا تجد ما تستثمرها فيه إلا بإطلاق عواصف الحزم والأمل على الجار الفقير القريب الذي يواجه وحيدا الجوع والوجع والجهل والتشظي والذي غدا على قناعة أن تلك الجاره هي السبب الأكبر في كل الشقاء والبؤس الذي يعانيه، رغم أنها تستطيع أن تقتطع جزء يسير من أموالها — التي تصرفها في حبك الدسائس والمؤامرات وحفلات القطيعة ضد جيرانها ومن يعتبرون أشقائها—فتوفر منه كوب حليب لكل طفل يمني ولكل صباح أو على الأقل تتوقف عن إيذائه

لعلنا ندرك أن فوز المنتخب اليمني الصغير هذه الليلة ليس كأي فوز وعلى منتخب ليس كأي منتخب بل يمثل دولة ليست كأي دولة بالنسبة لليمنيين فهم يربطون أسمها بكل قطرة دم وحرقة جوع ولهفة عطش وزفرة ألم وتنهيده هم حدثت لهم وتحدث منذ أن كانوا في أرحام أمهاتهم إلى أن صاروا صبية يستطيعون هزيمتها وإلى أن يكونوا شبابا أقوياء فيعملون في تنميتها أو تشغلهم كمرتزقة يقاتلون بالوكالة عنها وحتى يصبحون شيوخا لم تعد لهم أي أمنية الإ الحج إليها ومن بعده الموت فتمنعهم من الحج وتسمح لهم بالموت فيموتون

أليس الفوز على السعودية وإن كان رمزيا لدى العالم لكنه مهم ومهم لدى اليمنيون لأنه على السعودية والسعودية تحديدا ولهذا كانت له دلالات ومعاني

لا يعني ماسبق أننا نتنازل ونتخلى عن إستحقاقتنا المحلية ولا عن صراعنا الوجودي لإستعادة دولتنا لكننا نؤجل كل ذلك للتفكر في اللحظة العابرة وإلى أن يعود لنا ما سلب منا سنظل جزء من هذا الحيز الجغرافي حاملين لهويته

نقلا عن صحيفة رأي اليوم

أحدث العناوين

صنعاء| كيف كان المشهد في ميدان السبعين في أول مسيرة جماهيرية بعد رمضان

تحت الأمطار الغزيرة، خرجت مسيرات حاشدة في العاصمة صنعاء وعدة محافظات يمنية أخرى، تأكيدا لاستمرار الدعم اليمني للشعب الفلسطيني،...

مقالات ذات صلة