أنقذوا لاءات العزة الثلاثة.. يا أمة ضحكت

اخترنا لك

دكتور محيي الدين عميمور:

احتفل الوطن العربي من أيام بذكرى رحيل السيدة أم كلثوم، التي يشعر كثيرون بالنشوة وهم يرددون أنها الرمز الوحيد لوحدة الأمة العربية، وبرغم حبي لكوكب الشرق فإن هذا القول يزعجني لأن  الأمة لم تتوحد فعلا إلا عندما وقف الرجال ضد عدوّ الأمة، وما السادس من أكتوبر 1973 ببعيد عن الأذهان، وما ثورة الجزائر من أخبار ما قبل الميلاد، ناهيك من ثورة القسام وغضبة دمشق وجهاد عمر المختار وانتفاضة الشعب في المغرب وتونس ضد الاحتلال.
تلك كانت وحدة العزة والكرامة والرجولة التي تحتاجها أمة عريقة تتحالف ضدها قوى الشر، ولا تركز على وحدة تمايل الرؤوس وخدر العقول وسهر الليالي بما يجعلها في اليوم التالي والذي بعده حطام سفينة على شاطئ الحياة.

وكنت قرأت منذ أيام سطورا استهجنت إشارة عابرة كنت كتبتها مضمونها ما أحس به شخصيا، كعاشق لأغاني كوكب الشرق، من مرارة، لأنها لم تنشد أغنية واحدة تحية لثورة الجزائر، وهو ما رأيته استهانة من أهم فنانة عربية بالثورة ضد الاستعمار، حتى كدت أنحرف فأراها واحدة من مخدرات الأمة.
وعكست تلك السطور المستهجنة المشاعر العدائية لليد التي خطتها تجاه الجزائر، وراح البعض يذكرني بما بذلته مصر في سبيل دعم الثورة الجزائرية، وهو ما يعتز به كل جزائري، لكن عملية المنّ المتواصل أزعجتني، لأنني أرى في التذكير ببعض الهنات ضرورة لتنقية الأجواء العربية من خلفيات يختزنها العقل الباطن لكنها تسمم الأجواء.
وعاد إلى ذاكرتي ما رأيت “اجتراره” من الوقائع العربية التي كان تناسيها واحدا من عناصر نشوء الزمن الرديء.
وكمثال من المواقف التي تؤثر على تصرفاتنا بدون أن ندرك دورها السلبي أن قيادات عربية مواقف مصيرية تهم الأمة العربية كلها، تتخذ بصفة مباغتة أو بشكل فردي لا تسبقه أي مشاورات مسبقة مع الأشقاء الذين يعنيهم أمر التحرك المرتبط بذلك الموقف أو المترتب عليه.
وإذا كان هذا يُذكّر بخطاب الرئيس المصري أنور السادات الذي أعلن فيه عزمه على زيارة الكيان المحتل فإن الرئيس جمال عبد الناصر سبقه إلى كذلك بموقف متناقض في منتصف الستينيات، عندما فاجأ الوطن العربي  بالدعوة لعقد قمة عربية، تضمنها خطابه في مدينة بور سعيد يوم 23 ديسمبر 1964 بمناسبة عيد النصر، حيث طالب يومها بضرورة عقد اجتماع للرؤساء والملوك العرب لبحث التهديدات الإسرائيلية بتحويل مجرى مياه نهر الأردن، وهي مبادرة سارعت إلى تبنيها جامعة الدول العربية التي كان يرأسها وزير خارجية مصر السابق عبد الخالق حسونة، وكان ذلك بداية الادعاء بأن الجامعة تتصرف كذيل للنظام المصري.
وقال عبد الناصر في خطاب القمة ما معناه أن الدول التي أنعم الله عليها بنعمة البترول تستطيع أن تساهم بمبالغ مادية لدعم الصمود ولمواجهة هذا العدو الذي تدعمه أمريكا والدول الغربية، وتساهم ولو بقليل من ميزانيتها السنوية لدعم المعركة الكبرى التي تخصنا جميعاً، وحدد عبد الناصر ثلاث دول هي السعودية والكويت وليبيا.
واندفع القادة يعلنون حجم مساهماتهم دعما للمعركة، وكان الأول الملك سعود الذي أعلن عن تقديم 40 مليون دولار، وتلاه الشيخ عبد الله الصباح ليعلن تقديم 15 مليون دولار، وفي اليوم التالي أعلن الحسن الرضا تقديم ليبيا مبلغ 55 مليون دولار.
كان الرئيس الجزائري أحمد بن بله يتابع ما يحدث بكل قلق، فهو لا يستطيع أن يتردد أمام تقديم مساهمة مماثلة، لكنه شعر بالحرج لأن وضعه كرئيس للجمهورية كان يحتم عليه استشارة الحكومة أو إخطار أعضائها على أقل تقدير (وكان البرلمان الجزائري مجمدا نتيجة للغزو في أكتوبر 1963)
وهكذا قال بن بله عن الدعم الجزائري بأن من سوف يحدد حجمه هو الرئيس جمال، وكان هدفه مزدوجا، فهو من ناحية يسجّل أن القمة كانت مبادرة مصرية، ومن جهة أخرى أراد أن يكسب وقتا لإخطار زملائه في القيادة الجزائرية، ولعلي أضيف إلى ذلك أنه كان على يقين من أن عبد الناصر سوف يأخذ بعين الاعتبار المصاعب المالية التي تواجه الجمهورية الفتية في الجزائر، فقد كانت الروابط العاطفية التي نشأت بين الرئيسين مما لا يتكرر وجوده كثيرا في العلاقات بين الدول.
وكان المؤسف أن خصوم بن بله عندنا راحوا يعايرونه بأنه تصرف كتابع للرئيس المصري، وكان عليه أن يتخذ القرار بنفسه، وأنا أقول، برغم أنني كنت في الجانب المتناقض معه، بأنه أحسن صنعا، وكان موقفه مشرفا ومفيدا من كل الوجوه.
ويُعزل بن بله في 1965 ويتولى القيادة وزير الدفاع العقيد هواري  بو مدين، وهو ما فاجأ القيادة السياسية المصرية بشكل جعلها تتخبط في ردود فعلها، فارتكبت خطأ إرسال المشير عبد الحكيم عامر إلى الجزائر مرفوقا بالأستاذ محمد حسنين هيكل، وكان المقصود أن يصطحب بن بله ليكون، كما قيل، ضيفا على القاهرة، وترددت يومها أقاويل عن احتمال اختطاف بن بله على طريقة اختطاف بنيتو موسوليني في منتصف الأربعينيات.
ورفضت الجزائر مجرد السماح للوفد المصري بلقاء الرئيس السابق، وقيل للمشير بحزم لا يحتمل المراجعة بأن القضية قضية جزائرية داخلية، ولا مجال لأي تدخل فيها من أي طرف كان، ويعود الوفد إلى القاهرة بخفي حنين، ويكتب هيكل مقاله الأسبوعي الشهير في الأهرام عن “الركام” الذي يملأ شوارع العاصمة الجزائرية، وتمر العلاقات المصرية الجزائرية بفترة فتور اقترب من الشنآن.
ويدرك هواري بو مدين خطورة السماح بنشوء كراهية لا مبرر لها بين الجزائر مصر فيقوم بزيارة رسمية  إلى القاهرة في عام 1966، لكن حادثة كادت تتسبب في فتور جديد، نتيجة لموقف العقيد (آنذاك) الشاذلي بن جديد، عضو مجلس الثورة وقائد الناحية العسكرية الثانية، الذي كان رئيس الوفد العسكري المرافق للرئيس، وكان الموقف صورة لنظرة الجزائريين عموما للقضية التي تشكل أساس المواقف العربية، وهي قضية فلسطين.
فقد تضمنت الزيارة الرئاسية زيارة تقوم بها مجموعة من أعضاء الوفد برئاسة العقيد الشاذلي إلى قطاع غزة.
ووُضعتْ تحت تصرف المجموعة طائرة عسكرية خاصة حملتها إلى غزة حيث استقبلت من قبل السلطات العسكرية المصرية وقيادات العمل الفلسطيني بترحاب رسمي متميز، وكان من بين بنود الزيارة المشاركة في تجمع شعبي كبير، ارتفعت فيه الهتافات بثورة الجزائر وانتصار فلسطين وحياة الرئيس المصري، وتداول الخطباء الفلسطينيون على منصة الخطابة لتحية الجزائر وتأكيد الأمل في أن تلحق فلسطين بالجزائر بتحقيق نصرها الكبير، وردد الخطباء اعتزازهم بعبد الناصر مجددين إيمانهم بقيادته، وهو ما كان جزءا رئيسيا من محتوى كل الخطب القومية في تلك المرحلة، وخصوصا في فلسطين، حيث تعتبر التحية الموجهة للرئيس المصري دائما جزءا من ردود الفعل الوطنية ضد خطاب الرئيس الحبيب بو رقيبة في أريحا عام 1965، عندما وجه اللوم لمن رفضوا مشروع تقسيم فلسطين الذي أصدرته الأمم المتحدة في نوفمبر 1947 وأضاعوا بذلك القضية، وهو خطاب أعتبر آنذاك، عدلا أو ظلما، موجها ضد عبد الناصر أكثر منه لمصلحة القضية الفلسطينية.
وأعطيت الكلمة للرئيس (بعد ذلك) الشاذلي الذي قال للحضور ببساطة المواطن الجزائري وصراحته ما معناه إن انتصار الجزائر تم بفضل تضحيات الشعب كله، وبأنه ليس هناك فرد يمكن أن يجسد كفاح شعب أراد الحياة، وعلى الفلسطينيين ألا يربطوا مصيرهم بزعيم مهما كان.
وروى لي الشاذلي فيما بعد أن نهاية خطابه، الذي يبدو أنه كان صدمة للسلطات المصرية في عين المكان، شهدت أيضا نهاية كل مظاهر الاحتفاء الرسمي، وعاد الوفد إلى القاهرة على متن طائرة نقل، واضطروا إلى استئجار سيارة تاكسي حملتهم إلى مدخل قصر القبة حيث مقر الوفد الرسمي، حيث لا يُسمح لسيارات الأجرة باجتياز بوابته الرسمية التي تفصلها مئات الأمتار عن مبنى القصر.
ولن أستطيع هنا، أدبا، إيراد الشتائم التي كان يجهر بها أعضاء الوفد وهم يحملون حقائبهم بأنفسهم متجهين إلى المبنى، وهو ما بلغ أسماع عبد الناصر، وأثار غضبه على تصرف مساعديه.
وقال لي الرئيس الشاذلي فيما بعد وهو يروي لي القصة أن الرئيس المصري حاول خلال العشاء الرسمي أن يتلطف في الحديث معه، ليمحو ما علق بنفسه من نتائج رحلة غزة، وتم تجاوز الأزمة التي كانت قد نشأت أزمة مماثلة لها أثارها الرئيس التونسي الحبيب بو رقيبة عنزيارته لأريحا في منتصف الستينيات، ولعلي أعود لها في حديث آخر.
المهم أن العلاقات المصرية الجزائرية تغيرت بـ 180 درجة إثر عدوان 1967، حيث وقفت الجزائر وقفة رجولة امتزج فيها ما هو سياسي بما هو عسكري واقتصادي بل ووجداني، ولم يكن عبد الناصر يخفي اعتزازه بالموقف الذي صحح من علاقة مصر بالجزائر، خصوصا وأن الجزائر لم تحاول المتاجرة بمواقفها أو اجترارها بمناسبة وبغير مناسبة، ولم تشر صحفنا حتى إلى عدد الشهداء الجزائريين على جبهة الصراع مع إسرائيل، ناهيك عن أي صورة من صور الدعم التي كانت ترى فيه ردّا لخير مصر على الوطن العربي كله، والجزائر في المقدمة.
وكانت هناك صور رمزية تستحق التنويه.
فعندما اتصل سفيرنا في مصر الأخضر الإبراهيمي بالرئاسة في الجزائر ليبلغها بأن مصر قررت قطع علاقاتها مع الولايات المتحدة احتجاجا على دعمها المطلق للعدوان، أصدر بو مدين تعليمات بأن يستدعى السفير الأمريكي في الجزائر لوزارة الخارجية ليبلَّغ بقطع العلاقات الجزائرية مع واشنطن في نفس اليوم والدقيقة التي يُبلّغ فيها السفير الأمريكي في القاهرة بالأمر.
ويحدث أمر لا أراه أقلّ أهمية، فقد أصدر بو مدين أمرا بمنع زيارة كان المغني الفرنسي اليهودي ذي الأصل الجزائري غاستون غارناسيا، المدعو أنريكو ماسياس يعتزم القيام بها إلى الجزائر، عقابا له على رقصاته وغنائه أمام السفارة الإسرائيلية في باريس تشفيا في الهزيمة العربية في 1967، وهو منع ما زال قائما إلى يومنا هذا، حتى مع دعوة ماسياس إلى العديد من البلدان العربية حيث لقي ترحابا أشعرنا نحن بالخزي والعار.
وأتذكر أنني طرحتُ آنذاك في مجلة “الجيش” (شهر فبراير ) 1968 الفكرة التي تقول بأن ” القضية هي فلسطينية أولا وعربية ثانيا، وكل محاولة لعكس هذا  الترتيب سيُنظر لها كمحاولة لسلب الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره وكإرادة لفرض الوصاية عليه”، وأطلقتُ يومها الدعوة لـ “إقامة دولة فلسطينية تجمع المسلمين والمسيحيين واليهود، الأصليين بالطبع، أي السابرا وحتى السفارديم، ولكن دون الأشكيناز المستوردين من أوربا الشرقية على وجه الخصوص، ويلتقي الجميع داخل الأرض المقدسة في إطار المحبة والإخاء، لتكونفلسطين واحة للسلام في العالم كله، وكانت هذه هي الفكرة التي سطا عليها العقيد القذافي فيما بعد باقتراحه إقامة دولة “إسراطين” .
وأذكّر من جديد بأن كلّ كتاباتي كانت، وما زالت، بدافع شخصي وبدون أي توجيهات من أي مستوى كان، لكنني كنت أدرك أن مجرد عدم إيقافها، وهي تصدر في مجلة الجيش التي يتابعها الرئيس بو مدين باهتمام كبير، هو ما يطمئنني بأنني كنت على الطريق الصحيح، وهو ما أكده لي الرئيس بعد سنوات عندما استدعاني للعمل إلى جواره.
ولعلي أجرؤ اليوم على القول بأن علينا أن نعود لطرح فكرة إقامة دولة متعددة الديانات على أرض فلسطين لننهي خرافة الدولتين التي ترفضها إسرائيل وهي تمد مستوطناتها في الضفة الغربية لتحولها إلى شبه أرخبيل استيطاني.
ولعلي أزعم أن هذا هو أكبر تحدّ يمكن أن يواجهه الكيان الصهيوني، الذي يطلق الزغاريد بعد أن نجح في إلغاء لاءات الخرطوم وتحويلها إلى عكس ما كان تعبيرا عن الأمة في السبعينيات، وأصبحنا نعيش في عصر ينطبق عليه التعبير الشهير: يتمنعن وهن الراغبات.
ولا أنتظر الكثير من قيادات نزعت ورقة التوت بل أناشد رجال الفكر والثقافة لتكوين تيار يُخلصنا من رفات الأحلام العربية ومن الأوهام التي زرع “فريدمان” بذورها لتكون غابة يتستر وراء أشجارها من ابتلانا الله بهم من قيادات الأمة في الزمن الرديء، ولعلي أرى في هذا تكاملا مع جهود الدكتور طارق ليساوي ورفاقه من أحرار المغرب.
ولا يُغير الله ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم.

كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق

أحدث العناوين

رصد شامل لآخر تطورات حرب الإبادة الجماعية في غزّة

دخلت حرب كيان الاحتلال التدميرية وجريمة الإبادة البشرية على قطاع غزة يومها الـ 201 على التوالي، تزامنًا مع قصف...

مقالات ذات صلة