| د. كمال ميرزا*
تتوالى التقارير والتصريحات حاليّاً عن مخططات الكيان الصهيونيّ لإعادة إحتلال قطاع غزّة (مع أن هذه النوايا كانت مفضوحة منذ اليوم الأول)، وإعادة ضم الضفة الغربيّة (مع أنّ الضفة عمليّاً هي تحت سيطرة الكيان وطوع أمره)، وإعادة احتلال الشريط الحدوديّ جنوب لبنان.
مخططات العدو التي تنفّذ بالأصالة عن أمريكا ولوبيّاتها وجماعات مصالحها الخاصّة العابرة للحدود والقوميّات تأتي بذريعة حقّ الكيان بـ “الدفاع عن نفسه”، وتأمين حدوده ومستوطناته وعمقه، وتدمير وتفكيك قدرات المقاومة بحيث لا تعود تشكّل خطراً يسمح بتكرار “نكسة” السابع من أكتوبر مجدّداً.
ومؤخّراً أضيف لترسانة الهراء الدعائيّ أعلاه فكرة أن مساحة الكيان الصهيونيّ أصغر مما ينبغي، ولا بدّ من توسيعه من أجل حمايته وتأمينه!
طبعاً لو نظرنا إلى هذه المخططات من منظور مختلف بعيداً عن مزاعم الدفاع عن النفس الكاذبة والخرافات الدينيّة الأكثر كذباً وخداعاً، لوجدنا أنّ حرب “الإبادة والتهجير” هذه هي في حقيقتها حرب طاقة وموانئ وممرات مائيّة، وأنّ الهدف الأساسيّ في هذه المرحلة هو ابتلاع غاز بحر غزّة، ونفط الضفة الغربيّة، وغاز لبنان المتواجد في الواجهة البحريّة المتاخمة للشريط الأمنيّ المزعوم!
ولكن بعيداً عن أكاذيب الكيان ونواياه المضمرة، السؤال الذي يتبادر للأذهان هنا هو: على أي شيء يراهن الكيان هذه المرّة؟
لقد سبق للكيان احتلال غزّة لسنوات طويلة، واحتلال الضفّة العربيّة لسنوات طويلة، واحتلال جنوب لبنان لسنوات طويلة.. ومع هذا لم يستطع إخضاع ثلاثتها إخضاعاً تامّاً، أو القضاء على إرادة البقاء والصمود والمقاومة لدى أبنائها، ليجد نفسه في نهاية المطاف مضطراً للخروج منها يجرّ أذيال الخيبة.
والصيغ البديلة التي لجأ إليها الكيان لم تُجدِ نفعاً هي الأخرى، فلا “قوات لحد” في الجنوب اللبنانيّ، ولا السلطة الوطنيّة ذات النكهة اللحديّة في الضفة الغربيّة، ولا الحصار والجدار الأمنيّ في غزّة الذي يطلق عليه أهالي غزّة تهكماً واستخفافاً اسم “السلك”.. قد نجحت في احتواء وتحييد وعزل هذه النطاقات الثلاثة ونزع شأفة المقاومة منها.
فعلى أي شيء يراهن الكيان الصهيونيّ للنجاح اليوم فيما فشل به بالأمس، سيما وأنّ قدرات المقاومة وصلابة محورها وتعدّد جبهات إسنادها هي أقوى مما كانت عليه في أي يوم من الأيام؟!
قد يتذاكى أحدهم ويقول إنّ الكيان يراهن على الدعم الأمريكيّ والغربيّ غير المحدود، ولكن متى توقّف هذا الدعم أو تراجع ليكون هذا هو العامل الحاسم الآن؟ الكيان الصهيونيّ أساساً هو كيان وظيفيّ أنشأه المشروع الرأسماليّ الإمبرياليّ الغربيّ ليكون قاعدة متقدمة له في المنطقة، تحمي مصالحه، وتكفل هيمنته، وتعيد إنتاج سيطرته ونفوذه، وتكفل عدم توحّد العرب ضد هذه الهيمنة والسيطرة والنفوذ.
وقد يتذاكى أحدهم أكثر ويقول إنّ الكيان هذه المرّة يراهن على التفوّق التكنولوجيّ، وخيارات وممكنات التحكّم والسيطرة التي تتيحها تقنيّات وأنظمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعيّ.. ولكن بماذا يختلف هذا الإيمان الساذج بـ “الحتميّة الرقميّة” عن الإيمانات السابقة بالحتميّة الإلكترونيّة، والحتميّة الميكانيكيّة، والحتميّة البيولوجيّة.. رجوعاً إلى أيام “فرعون” عندما قال: “أنا ربّكم الأعلى”؟!
ولماذا لم تشفع التكنولوجيا الفائقة والمتفوّقة لأمريكا في فيتنام والعراق وأفغانستان؟ ولماذا لم تشفع هذه التكنولوجيا للكيان نفسه للحيلولة دون وقوع غزوة السابع من أكتوبر المباركة!
على ماذا يراهن الكيان الصهيونيّ إذن؟
هو يراهن ببساطة على الخيانة!
الكيان الصهيوني يتصرّف تصرّف الواثق تماماً بأنّ أنظمة الشجب والندب العربيّة والإسلاميّة لن تطلق عليه رصاصة واحدة، ولن تمنع عنه قطرة ماء واحدة، أو لقمة طعام، أو نسمة هواء.. الخ، بل وستذود عنه أكثر ممّا يذود عن نفسه، بكونها قد ربطت مصيرها بمصيره، وبكون استمرارها واستمرار دورها الوظيفيّ الذي يمنحها ويمنح فساد نخبها الحاكمة “الشرعيّة” و”الغطاء” هو رهن ببقاء هذا الكيان واستمراره!
نحن لا نتحدث هنا عن خيانة تقف عند حدود السكوت أو التخاذل أو التواطؤ، بل هي خيانة تتعدّى ذلك نحو “الشراكة” الحقيقية في تشديد الخناق على “المقاومة”، ومحاولة القضاء عليها و”التخلّص” منها نهائيّاً هي ومجمل ما يُسمّى “محور الممانعة”.. و/أو حماية الكيان الصهيونيّ، والدفاع عن أجوائه وأراضيه ومائه، والمسارعة للتوسّط لصالحه ومنحه خيارات وبدائل ومخارج كلما شعر أنّه أوغل أو تورّط أو علق في الوحل!
من بركات معركة “طوفان الأقصى” أنّها كشفت لنا تهافت الكيان الصهيونيّ وضعفه وهشاشته، وأنّه لم ينتصر يوماً بمقدار ما أنّ الأنظمة العربية والإسلامية هي التي كانت تنهزم أمامه، أو بالأحرى “تتهازم”!
بكلمات أخرى، “نتنياهو” وعصابة حربه وشركاؤهم من العرب والمسلمين (وحتى بايدن وترامب) جميعهم “ملّة” واحدة ومنذورون لتنفيذ وإمضاء مهمّة واحدة.. وعلى هذا يقوم الرهان!
*كاتب أردني