شرعب الرونة معزولة بين جبالها تنهشها الكوليرا..

اخترنا لك

الخبر اليمني/عبدالملك النمري:

قضت الكوليرا قهريا بوفاة ما يربو على أربعين شخصا من أهالي مديرية شرعب الرونة شمال محافظة تعز أغلبهم من الكهول و أطفال ما دون العاشرة, فيما فاق عدد المصابين ثلاثة آلاف وستمئة وأربعين شخصاً من أعمار ومناطق مختلفة.

بحسب تقرير عرضه مكتب الصحة بالمديرية منتصف يونيو/جزيران الجاري.

على رغم كشف هذه الإحصائية عن معانة ثقيلة وبركَ دموع فإنها, مع الأسف, لم تثِر تعاطف أية جهة إزاء مأساة القرى النازفة ,وما من أحد جاء يمد لها يد العون ,لتبقَ شرعب وحيدة بين الجبال تلعق جرحها والعالم يراقب في صمت تضاؤلها يوما بعد آخر.

يظن الكثيرون ,هنا, أن الإنسانية ماتت منذ زمن والإ لما تأخرت النجدة كل هذا الوقت ,بيد أن الكوليرا في انتشار متسارع, وهذا ماهو أكيد الان.

ظهرت  حالات الإصابة باسهالات مائية نهاية العام المنصرم في عزلة الأجشوب وراحت تنتشر في قرى مجاورة هناك. قال د.عبدالله مفرح مدير مكتب الصحة ثم أضاف: وتو إبلاغ المركز عن تلك الحالات بُعثت إلى المكان المحدد فرق ميدانية كنت ,أنا على رأسها, وأخضعت جميع الحالات المشبوهة للفحص, وحتى يتبين لنا ماهية ذاك المرض قمنا بإرسال  العينات إلى صنعاء, على وجه السرعة, ليتم فحصها زراعيا ولم يمض وقت طويل حتى عادت النتائج من المختبر المركزي وقد كانت إيجابية. حينها أعلن مركز الصحة في المديرية حالة طوارئ ليبدأ مشوار  مكافحة الوباء الطويل.

يؤكد مفرح على أن وضع المديرية الآن كارثي بأكثر مما ينطوي عليه الوصف من معني وإنه يفوق وضعها السابق حين الأشهر الأولى من انتشار الوباء .متذكرا  أنه وبعد شهرين من استقبال أولى الحالات المصابة بالكوليرا لم يكن الوباء قد تفشى في جغرافيا المديرية كما هو الآن. “لقد كان محصوراً في ست عزل فقط دون باقي العزل , وكانت  إمكانيات مكتب الصحة لا بأس بها إذ تحصل على بعض الدعم والذي كان شحيحا وأقل بكثير مما هو مطلوب. كل ذلك سهل مهامنا إلى حد ما, وباشرنا نكافح الوباء بكل ما في وسعنا وعلى أكثر من صعيد.

لاشك أن في المقام الأول كان علينا معالجة المصابين فجهزنا مركزين اثنين لأجل استقبالهم( مستشفى الشهيد عبدالجليل نصر ومستشفى الحرية الريفي)زودتهما منظمة الصحة العالمية بالمحاليل الوريدية وبعض الأدوية. أما على الصعيد الميداني فقد شكلت فرق راحت بشكل دوري تستهدف المناطق الموبوءة والمجاورة لها للقيام بأعمال منوعة كنشر التوعية وتعقيم المياه بالكلور بالتعاون ومنظمة أوكسفام كما أننا وبالتنسيق مع مكتب التربية في المديرية علقنا الدراسة في بعض المدارس كي نعرقل انتشار الوباء فيتيسر لنا تحجيمه بقدر استطاعتنا.

وأضاف: وبينما نحن في غمرة الكفاح, لأسباب مازالت غامضة إلى الآن توقفت الجهات الداعمة عن تزويدنا بما نحتاجه ,ولم نكن حينها قد نفذنا خطتنا المرسومة ولا نصفها حتى. ولا شك أن الإحباط والتسليم لذاك الظرف المفاجئ في ذلك الوقت الحرج كان ليحدث كارثة إنسانية قاتمة لن ننساها ماحيينا لذا لم يبقَ أمامنا من خيار سوى مواصلة الخطة حتى النهاية, حتى الاحتفال بتعافي آخر مصاب في المديرية.

خلال تلك الفترة والتي استمرت ما يقارب الخمسة أشهر (من 29نوفمبر/تشرين ثاني وإلى نهاية مارس/اذار) بلغ عدد الإصابات المسجلة لدى مكتب الصحة ما يقارب الألف ومائة مصاب فيما لم يتجاوز عدد الوفيات البضعة عشر ,وهذه الإحصائية لا شيء مقارنة بما كان في انتظارنا بعدها.

يستأنف عبدالله مفرح حديثه قائلا: حشدنا كل الجهود في سبيل تحجيم انتشار الوباء وساعدنا في ذلك كل من المجلس المحلي ومكتب التربية والتعليم في المديرية ,وبرغم خطواتنا التي أفضل ما  يقال عنها  متأرجحة لشحة الإمكانيات إلا أن نتائجها وصلتنا مبشرة إذ راحت الكوليرا تتلاشى يوما بعد آخر الأمر الذي أعاد شحننا بأمل كثيف ومضينا بخطوات ثابتة آملين في إنهاء تلك المأساة قبل حلول موسم الصيف إذ أن أكثر ما قد يخدم الكوليرا ويساعد في تفشيها, زيادة المستنقعات الملوثة والمياه الراكدة. “لا أخفيك أنني تضرعت  إلى الله ليأخر الصيف شهرا إضافيا” هكذا قال لي, مفرح, من بين أسنانه ثم استأنف: لكن  بعكس ما أمِلنا ووفقا لقانون الطبيعة أخذ المطر في الانهمار وراح السيل يخترق القرى موزعا على طول انحداره البكتيريا المسببة للوباء والذي طفق ينتشر بوجهٍ آخرٍ أكثر شراسة.

في غضون أسبوعين بلغ عدد حالات الإصابة بوباء الكوليرا في مديرية شرعب الرونة 1254حالة استقبلها المركزان الوحيدان في المديرية وذلك من منتصف مايو/ايار وحتى30من الشهر ذاته2017بواقع ستين حالة لليوم الواحد تقريبا ,ثلاثين منها كانوا يحالون إلى غرف الرقود.

ليعلن مكتب الصحة في المديرية ,حينذاك, حالة طوارئ ساخنة مناشدا كافة الجهات المعنية ومنظمة الصحة ليعاودوا تقديم الدعم العاجل.

يتحدث الشيخ عبدالجبار نائف عضو المجلس المحلي في المديرية عن تلك المرحلة قائلا: بإنها فاجعة شديدة السواد شملت كافة المديرية مترامية الأطراف ,مؤكدا على أنه بذل جهدا كبيرا في سبيل إيجاد المساعدة من مكتب الصحة في المحافظة ومن أكثر من جهة. ويضيف: إهدار مزيد من الوقت في انتظار ما قد ينتج عنه استجداءنا المتواصل, واضعين أيدينا على خدودنا ,لم تكن فكرة صائبة ,كان علينا البحث عن مصادر دعم أخرى قريبة ,ولم يكن ثمة من نلجأ إليه سوى تجار ومغتربي المديرية وفاعلي الخير,والذين رفدوا مكتب الصحة ببعض المال ساعده قليلا في مواجهة المحنة.

وناشد عبدالجبار كل الجهات الرسمية والمدنية بالالتفات إلى هذه المديرية الموشكة على الفناء. مهيبا ,بشكل خاص, المنظمات الدولية لأرسال فرق ميدانية حتى يتسنى لها إلقاء نظرة قريبة إلى معانات المواطنين وخيباتهم المريرة مؤكدا على استعداده الكامل لتوفير الجو الآمن لتلك الفرق وتحمل مسؤولية حمايتها.

حين باشرت جمع مفردات هذا التقرير شاءت الصدفة أن التقي ذوي الشأن في المديرية تحت سقف غرفة  مفروشة بتواضع, قيل لي إنها “غرفة عمليات مكافحة الكوليرا”. كان هناك عضو المجلس المحلي ومدير مكتب الصحة ومدير مستشفى الشهيد عبدالجليل نصر ومجموعة من الشباب ولا شك أن وجودهم معا يسر لي الأمر أشد تيسير.

ففيما كان د.عبدالله مفرح يتحدث عن شح شديد في الإمكانيات ,أكد بدوره طلال سيف جميل مدير مستشفى الشهيد عبدالجليل نصر نفاد كميات المحاليل الوريدية والأدوية الأخرى الضرورية في المستشفى وقال:

إنه في حال تأخر رفدنا بكميات أخرى من العلاج سنضطر ,مع الأسف, إلى إقفال أبوابنا أمام كل من ليس في مقدوره شراء العلاج من الخارج.

طبيبان وألف مريض

باستثناء د.محمد دائل و فؤاد المعمري لم يبق في مستشفى الشهيد عبدالجليل نصر أحد من كادره الطبي ,كلهم ذهبوا في اجازة مفتوحة كنوع من الإضراب نظرا لانقطاع مستحقاتهم المالية تاركين خلفهم مشفى يعج بعشرات المرضى لذينك الرجلين اللذين طببا حتى16_6مايقارب 1307شخصا.

يقول د.دائل بإن الصعوبات التي تواجهه شخصيا كونه مشرفا على الحالات الراقدة في غرف المشفى وأروقته  لا حصر لها ,أكثرها حدة بلا شك العمل المتواصل معظم ساعات اليوم منذ أشعة الصباح الأولى وحتى هزيع الليل الأخير. وتساءل بنوع من الوجل: ماذا لو داهمني وزميلي فؤاد الوباء بشراسة.؟!مشيرا  إلى أن هذا أكثر ما يسبب له القلق. لكنه يؤكد على أن خلو المشفى من الممرضين  حمولة ثقيلة غير أنني وزميلي المعمري مستعدان لتحملها مؤقتا بشرط توفير العلاجات اللازمة على وجه السرعة وبلا شك نحتاج بعض النقود لأجل اطفالنا.

ويؤكد بدوره فؤاد المعمري  على استعداده لخدمة المرضى واصفا ذلك بإنه أقل ما يمكن تقديمه لمديرية استقبلته  كواحد من أبنائها منذ قدم إليها نازحا من المدينة قبل عامين .

ما يجعل الكوليرا مخيفة إلى الأقاصي ليس بأنها مميتة فحسب بل ولأنها على استعداد أعمى لسلب حياة أسرة بأعضائها جميعا.

حتى تعافت كفاية من الوباء جلس على رأسها والدها عبدالسلام أنعم مدة رقودها في المشفى, كانت مهادنة لطيفة من الكوليرا أن تسربت إلى جسده النحيل وقد أعاد ابنته كفاية إلى المنزل. لكنه لم يرجع بمفرده إلى غرفة الرقود لقد اصطحب معه ابنتيه سيناء وأسماء إذ أصيبتا بالوباء أيضا.

مع العلم أن عبدالسلام أنعم يعمل بالأجر اليومي كبائع قات في سوق القرية وهذه مأساة لوحدها.

يقول فؤاد المعمري إن حالة عبدالسلام وابنتيه أخذت في التحسن بعد ثلاث أيام من الرقود وأنهم على وشك التعافي التام والعودة إلى منزلهم. ا ريب سيفرح بتعافي أسماء وشقيقتها ووالدهما وأفرادُ الأسرة الباقين, لكن ليسوا وحدهم في ذلك إذ إن الصبي محمد أمين خالد سيشاركهم الفرح معجوننا بآلامه الخاصة حيث سيخلو له سريرا وهو النازل الجديد في المشفى.

اعتصرني الحزن والأسى حين علمت بيتم محمد من جاره محمد صالح غالب والذي قام بإسعافه من قريته المسماة شرق حمير.

المواجهة خير من الاختباء

يعيش أهالي ريف شرعب المثقل بالجبال الشاهقة في حالة ذعر كثيف وهم يشعرون بأن خطرا محدقا يترصد حياتهم في أبسط الأشياء وأنفسها كالماء والغذاء ,ما دام وباء الكوليرا طليقا يتسكع بين الوديان الخفيضة  وهو, لامحالة, في طريقه إليهم ,تسبقه سمعته الباعثة على الوجل, إذ غدا لا ينقضي نهار مشرق دون اجتياح  الوباء المميت لقرى جدد  ليباشر تعريتها سكونَها القلِق ويلبسها  رداء فجيعة سميك ,

وهو ليس في حاجة لطريقة ما يعلن بها تواجده في  أية منطقة , نواح الثكلى وأنين المصابين يتكفل بهذا .

يحاول المهندس عبدالجليل أحمد تصوير المأساة القلقة ,التي يقتسمها وباقي المواطنين ,على نحو أكثر إيضاحا بقوله: لا يوجد من بين المحن القاسية والأكثر حدة في تاريخ المأساة ما يضاهي محنة البقاء قسرا في حجرة ضيقة إلى جانب معتوه في يده سكينا حاداً ,لا تدري متى يثور ويغرزها في جسدك, وإنك مهما صرخت لن تلقى النجدة فضلا عن أنك مكتوف اليدين.

ويضيف :

هذا الوباء وحش ثخين البلادة لا يعنيه مطلقا أنك لم تقبض راتبك منذ شهور وأنك الآن عاجز عن توفير لقمة العيش ليفترس مَن حولك دون إمهال.

ثم توقف المهندس فجأة وكأنه استنفد مالديه من حديث.

فيما عدا التيه البادي خلال حركة عينيه الثقيلة ظلت ملامح وجهه رمادية لا تفصح عن شعور محدد.

بعد أن انتظرته لبرهة وما تحدث ظننته فعلا قد قال كل شيء وهاه و يجول في عالمه الخاص ناسيا وجودي إلى جواره ,حينها رأيت أن عليا استرجاع ما قاله سابقا طالما والمحادثة انتهت إلى ذلك الحد, غير أنه ما لبث وعاود الحديث, لقد كان صوته خفيضا كما لو أنه قادم من البعيد, لعله تحدث من حيث كان شاردا, قال: على مدار اليوم لا أنفك أخشى على مارتينا وأخوتها من هذا الوباء اللعين فأنا أعلم مدى خطورته. وحتى إن نجحت في ابقائهم داخل المنزل دون أن يشعرهم ذلك بالضجر فإن العزلة عن المجتمع تظل طريقة وقائية نسبية على أية حال. ثم يستدرك وقد زاد صوته ارتفاعا ووضوحا وعادت عيناه, كعادتها, تبرق بالأمل: لا أجد وقاية مطلقة من هذا الوباء في غير مواجهته, واليس ينتشر بالعدوى.؟!إذن علينا الا نمنحه فرصة لذلك ,علينا جميعا مجابهته قبل كل شيء .لنتحسس جيراننا على الدوام ونستمر في تلقينهم طرق الوقاية من الوباء, ذلك حتى لا يصابون به ويصير أقرب ما يكون منك. فأن تقف الكوليرا على تلك المسافة القريبة يعني تسربها إليك في أية هفوة.

واختتم قوله نتمنى من جميع القائمين على المساجد أن يساهموا في هذه الحملة خلال خطب الجمعة والحلقات المسائية.

نهاية وشيكة

صار  في وسعنا أن نقول بثقة ومرارة :إن المعيشة في عزل شرعب الرونة صارت نوعا من المخاطرة مما يختلج عنها من نهاية بئيسة وسط تفشي وباء الكوليرا بتسارع مخيف وبرغم هذا ليس في مقدور الأهالي سوى المكوث أماكنهم وانتظار هلاك محسوم في ظل ظروف اقتصادية  شديدة الوهن لا تساعد على الرحيل ولا حتى أدنى مقاومة.

يتساءل أهالي مديرية الرونة عما إذا كانت النهاية وشيكة في ظل انتشار الوباء من حولهم على نحو مضطرد وإعلان مكتب الصحة خروج الوضع عن السيطرة كلياً.

سجل مكتب الصحة في المديرية في آخر تقاريره احتياجاته الشديدة الضرورة والتي على رأسها افتتاح مراكز جديدة للمعالجة لا تنقص عن عشرة مراكز وتقديم الدعم اللازم لتلك الموجدة حاليا, إضافة إلى ضخ الأدوية بأنواعها ,كما طالب بتشكيل فرق ميدانية سواء لنشر التوعية المجتمعية أو فرق كلورة مياه وتزويدها بكافة احتياجاتها.

وقال د.عبدالله مفرح إنه في حال توفرت هذه الاحتياجات بصورة عاجلة سيكون في الأماكن القضاء على الكوليرا بنسبة 60% أما في حال ظل الدعم مستمراً فإنني أطمئن الأهالي وأوكد بأننا سنبتهج معا بتعافي آخر مصاب.

أحدث العناوين

قائد أنصار الله: آل سعود يزيحون الآيات القرآنية والأحاديث التي تغضب “إسرائيل” من المناهج

قال قائد حركة أنصار الله، عبد الملك الحوثي، السبت، إن السعودية الإمارات قامتا بتعديل مناهجهما الدراسية بطريقة تقدم فيها...

مقالات ذات صلة