اتفاق ستوكهولم؛ ميناء الحديدة غاية الحرب و أساس السلام

اخترنا لك

من الناحية الشكلية، فإن اتفاق الحديدة هو التزام تعاقدي يخص جهتين هما سلطة الأمر الواقع في صنعاء و حكومة الشرعية اللاجئة في الرياض. هذا بغض النظر عن أن قبول وفد الشرعية بعقد الاتفاق جاء نتيجة أوامر مفاجئة أصدرها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في اليوم الاخير من المفاوضات لأسباب سيتم توضيحها لاحقا (كواليس ستوكهولم، والورقة الرابحة في يد جوتيريتش). كما أن قرار ابن سلمان لم يكن يحظى بقبول شريكه ولي عهد الإمارات محمد بن زايد.

الحديدة-أكرم عبدالفتاح-الخبر اليمني:

من الناحية العملية، فإن من يتوجب عليه تنفيذ الاتفاق من طرف “تحالف دعم الشرعية” هي دولة الإمارات كونها من تقود القوات المهاجمة في الحديدة فعلياً و لأجلها جندت عشرات الآلاف من المقاتلين التابعين لها مباشرة مالياً و إدارياً و عملياتياً، فأنشأت لهم وحدات عسكرية تتعدد مسمياتها ضمن تقسيم مناطقي، لكن أهم ما يجب ملاحظته بهذا الخصوص هو أن الإعلام الإماراتي يطلق عليها إسم “القوات المشتركة” لتمييزها عن المسمى الآخر “قوات الشرعية” الذي يطلق على الألوية العسكرية التابعة لحكومة الشرعية الكائنة في الرياض.

 

الجزء الآخر من الحقيقة هو أن حكومة الشرعية لا تملك أي سلطة على الأرض لتنفيذ اتفاق الحديدة -إن أرادت ذلك- فهي عمليا ليست أكثر من واجهة دعائية وظيفتها إثارة الضجيج لإخفاء أفعال التحالف و تمويه أغراضه و تضارب توجهاته من وقت لآخر بحسب احتياجاته الدبلوماسية الآنية.

 

أبعد من هذا، يتعذر ادعاء أن القوات المهاجمة في الساحل لها علاقة بحكومة الشرعية خارج توجيهات الممول، و ليس اعتباطاً القول بأن من يهاجم الحديدة هو قوات إماراتية، بل هو التزام بحقائق الأمور و استناد لمنطق الواقع، فكيف تكون قوات تابعة لحكومة “الشرعية” في حين أن معظمها لا تعترف أصلا بتلك الحكومة. أتحدث هنا عن مجموعة ألوية العمالقة الجنوبية التي تشكل معظم القوة المنتشرة في الساحل، و معها مجموعة ألوية حراس الجمهورية بقيادة طارق عفاش، بل أن كلتا المجموعتين ليستا ضمن هيكلية وزارة دفاع الشرعية. هناك أيضا مقاتلون تحت مسمى ألوية الحماية الرئاسية الجنوبية ذوي الميول الانفصالية، و مجموعة ألوية المقاومة التهامية إضافة إلى وحدات عسكرية تضم مقاتلين سودانيين و من جنسيات اخرى، كل هذه المكونات أنشأتها الإمارات و هي من عينت قادتها و هي من تدفع رواتبها. و بالطبع فإن جميع القوات تتلقى أوامرها من ضباط إماراتيين يمثلون القيادة الميدانية لهم في المخا.

 

أيضاً، انحصار صلاحية قرار الحرب أو السلام في الساحل بدولة الإمارات من جهة التحالف، يرجع لكونها صاحبة صاحبة المصلحة الأكبر في الاستيلاء على الحديدة مدفوعة في ذلك بأطماعها في السيطرة على ميناء الحديدة ضمن مشاريعها التوسعية التي هي السبب الحقيقي لمشاركتها في التحالف مع السعودية للحرب على اليمن، مشاركة تبدو في وقائعها و اغراضها أشبه بتقسيم للخريطة اليمنية إلى مناطق نفوذ طويل الأمد يمكن استنتاج نطاقها استنادا لما يوضحه نطاق قيادة العمليات العسكرية خلال السنوات الخمس الماضية، إذ يتمثل نصيب السعودية في المناطق المجاورة لحدودها من ميدي و حتى المهرة، بينما تحظى دولة الإمارات بالموانئ اليمنية كغاية أساسية و هدف استراتيجي لمصلحة شركة موانئ دبي العالمية، و لهذا تمتد حصتها على طول السواحل اليمنية من أبين و حتى الحديدة بما في ذلك الجزر المقابلة للساحل، في حين لم يتضح تماما مدى التوافق على وضع حضرموت و شبوة بما تمثلانه من ثروات نفطية و سواحل استراتيجية إذ يتداخل نفوذ الشريكين الخليجيين هناك دون ظهور ملامح لحدود فاصلة. على الأقل هكذا كانت خريطة المطامع في اليمن منذ بدء الحرب حتى شهر أغسطس الماضي.

 

أما عن الأغراض و الغايات الخاصة بأطماع الإمارات في ميناء الحديدة تحديداً و الساحل الغربي بشكل عام، فيمكن تلخيصها في غايتين أولاهما استكمال سيطرتها على جميع الموانئ اليمنية لضمان عدم ظهور أي منافسة مستقبلية تنتزع الريادة من ميناء دبي المهدد بالاندثار عند اكتمال مشروع “الحزام و الطريق” الصيني. الغاية الثانية هي امتلاك إمكانية التحكم بخطوط الملاحة الدولية في مدخل البحر الاحمر بما يعنيه ذلك من امتلاك ثقل استراتيجي و سياسي و مزايا عسكرية. و لنضف لهذا غاية أهم هي إبعاد قوات صنعاء عن سواحل البحر الأحمر بما تشكله من تهديد للأساطيل التجارية و الحربية التابعة لها و لحلفائها.

لكن إذا نظرنا لما وراء الصورة و حقيقة أن دولة الإمارات هي أشبه بمستعمرة تديرها أيادي بريطانية و أمريكية (هونج كونج الخليج)، سنجد أن الإمارات هنا ليست سوى واجهة تتخفى خلفها القوى الكبرى لحلف الناتو لأغراض مواجهة الصعود الصيني و مخاطر الصحوة الاستراتيجية الروسية في الشرق الاوسط، و بالطبع هناك سبب ملح على المدى القريب هو الاستعداد لحرب المضائق البحرية المتوقع نشوبها مع إيران خصوصا في المرحلة الحالية من الصراع التي يجري فيها تشديد العقوبات الأمريكية ضد إيران كونها صارت مبعث الصداع الأقسى للمشروع الأمريكي في المنطقة و مصدر الخطر الأكبر على الكيان الصهيوني و مخططات التطبيع الجديدة ضمن صفقة القرن.

 

قوات تابعة للإمارات في جبهة الساحل الغربي

تلك أهداف التحالف في السواحل اليمنية على المستوى الاستراتيجي، أما عن الاهداف المرحلية الآنية التي دفعت التحالف الخليجي للاستماتة في محاولات السيطرة على ميناء الحديدة تحديدا كأولوية خلال العام الرابع من الحرب، فهي نتيجة لتأكد عجزهم عن حسم “عاصفة الحزم” عبر الوصول إلى صنعاء الحصينة بجبالها و محيطها المقاتل، و مع اتضاح فشل مسارات الهجوم المتعثر في فرضة نهم أو الجوف طوال ثلاث سنوات، فقد اتجه قادة التحالف للبحث عن وسائل بديلة لفرض المزيد من الضغط على سلطات صنعاء بخنقها اقتصاديا و معيشيا حتى تذعن لشروط التحالف تحت مخاطر شبح المجاعة و احتمالات تأثيرها الذي قد يدفع الناس للثورة ضدها مع تشديد سياسة التجويع الشامل.

 

قبل هذا كان التحالف -و من يحركونه- قد نجحوا سابقا في نقل البنك المركزي إلى عدن بوعود مخادعة عن الالتزام بصرف رواتب موظفي الجهاز الحكومي، و هو إجراء سبقه سحب السيولة المالية من الأسواق عبر بعض التجار و فرض الدفع النقدي لقاء المشتقات النفطية من محافظة مأرب، لكن كل ذلك الضغط الاقتصادي لم يحقق التأثير المطلوب في خلق الفوضى و أعمال الشغب داخل مناطق حكومة صنعاء. و كان هناك أيضا الحصار البحري و إجراءاته في عرقلة وصول المواد الغذائية و المشتقات النفطية إلى ميناء الحديدة لكن هذه الوسيلة لم تكن كافية حيث أن منع السفن من دخول الميناء هو إجراء يمكن اتخاذه فقط لفترات قصيرة و بشكل متقطع، فليس بمقدور التحالف منع سفن الغذاء بشكل دائم كونه أمر يتعذر إخفاؤه عن وسائل الإعلام كما لا يمكن إقناع المنظمات الدولية برفع مستوى تواطؤها مع التحالف إلى هذا المستوى. حيث أن إقفال الميناء هو نوع من العقاب الجماعي الذي يعد من أخطر الانتهاكات للقانون الدولي، و لا يمكن للمنظمات الدولية المخاطرة بفضح تواطؤها هكذا دونما تمويه. فقواعد اللعبة المعتادة هي احتجاز السفن لفترة من الزمن بعدها تبدأ المنظمات بإصدار بيانات المناشدة و التحذير ليتم بعدها تشغيل الميناء لفترة موقتة، ثم إقفاله من جديد… و هكذا سارت الأمور طوال السنوات الماضية.

 

الفكرة التي استجدت هي أن احتلال ميناء الحديدة سيمنح دول التحالف سلطة التحكم بتوزيع واردات الميناء من السلع بشكل تام، كونه يجعلها هي السلطة التي تستلم شحنات المواد الغذائية و الوقود عبر الميناء و هي التي تحدد مناطق توزيعها و حصصها، بحيث يمكنها التحكم بالكميات التي سترسل إلى محافظات الداخل بما في ذلك قطعها نهائيا أو فرض شروط لتسليمها، و بهذا تتعزز القدرة على استخدام سلاح التجويع دون إثارة اللغط المعتاد من قبل المنظمات الدولية كون سفن الغذاء تصل للميناء و لا يشملها الحظر طبقا لقرار مجلس الأمن. باختصار؛ اللعبة هنا شبيهة بعملية نقل البنك المركزي إلى عدن.

 

 

*الطرف الثاني*

 

على الناحية الاخرى، فإن الطرف الثاني في اتفاقية ستوكهولم هو سلطة الأمر الواقع في صنعاء و التي تديرها جماعة أنصار الله ممسكة بزمام قرار الحرب و السلم من جهتها ككتلة واحدة لا تضارب في توجهاتها، و بخصوص موضوع الحديدة فإن لها غاية واحدة تحكم نظرتها لشؤون الميدان و طاولة المفاوضات، خلاصة موقف حكومة صنعاء هو أنها تنظر لقضية الحديدة و مينائها باعتبارها قضية حياة أو موت، فلا تسليم بالتفاوض و لا استسلام في الميدان إذ قررت الاستماتة في الدفاع عنها حتى آخر مقاتل. و لن تقبل بأي حلول تفاوضية تؤدي لإخراج الميناء عن سيطرتها ما لم تتضمن حلولا شاملة تنهي الحرب و الحصار بشكل تام، كونها تدرك أن سيطرة التحالف الخليجي على الميناء سيعني تضييق الخناق عليها أكثر حين يتحكم التحالف بواردات الغذاء و الوقود و حصص توزيعها للمحافظات، ما يعني تشديد حرب التجويع على ملايين اليمنيين في مناطق سيطرتها. كما لن تقبل حكومة صنعاء بتسليم الميناء للأمم المتحدة أو أي طرف محايد حتى لو حصلت على ضمانات دولية، فهي قد جربت تلك الضمانات سابقا في خدعة نقل البنك المركزي إلى عدن لتتفاجأ بعدها بسراب الضمانات الأممية التي لم تنفذ وعودها بالاستمرار في صرف رواتب موظفي الجهاز الحكومي.

 

 

 

 

*و الطرف الثالث*

إلى جانب أطراف الصراع على الأرض، تتضمن بنود الاتفاقية طرفاً ثالثاً هو الأمم المتحدة باعتبارها الجهة الراعية للمشاورات التي أفضت إلى الاتفاقية و هي الضامنة و الموكلة بالإشراف على تنفيذها فعليا.

و بشأن تطورات موقف هذا الطرف فيما يخص وضع مدينة الحديدة، من المفيد التذكير بأن الأمم المتحدة كانت قد كثفت جهودها منذ عام ٢٠١٧ سعيا نحو إخراج ميناء الحديدة عن سيطرة حكومة صنعاء عبر الجهود الدبلوماسية و المقترحات المدعومة من الدول الكبرى، و قد تولى مهمة تسويق تلك المقترحات المبعوث الأممي السابق إسماعيل ولد الشيخ الذي حاول مراراً و تكراراً إغراء سلطات صنعاء بأن تسليم ميناء الحديدة هو السبيل لدفع مرتبات موظفين مستعينا في مساعيه بمواقف دولية تضغط بنفس الاتجاه  بما في ذلك مبادرات أمريكية و بريطانية جاءت لنفس الغرض، ثم اقترح ولد الشيخ خطة تتضمن تسليم الميناء و جعلها أساس كل مساعيه و نشاطه خلال السنة الاخيرة من مهمته، ليحاول تمريرها عدة مرات عبر مجلس الأمن الدولي. و بالطبع فقد فشلت كل الضغوط الدولية في إقناع سلطات صنعاء بقبول صفقة تسليم ميناء الحديدة.

 

في نفس الوقت كانت الإمارات تعمل بتركيز شديد على التجنيد و التدريب و شراء الأسلحة لتكديسها في المخا و تحشيد القوات هناك لبدء حملتها العسكرية على الحديدة استعدادا لبدء “عملية الرمح الذهبي” أو معركة الساحل الغربي. (للمزيد:  إتفاق الحديدة كنتيجة لانكسار الرمح الذهبي)

 

 

 لم تتوقف الضغوط الدولية لتسليم الحديدة بانتهاء فترة ولاية “ولد الشيخ” فقد تواصلت في فترة المبعوث الأممي الجديد جريفيث و ظلت محورا أساسيا لمقترحاته خلال كل زياراته لليمن حتى نهاية عام ٢٠١٨، الفارق الوحيد هو انه اتبع أساليب أكثر ذكاء و دبلوماسية. بل أنه واصل مسعاه هذا حتى خلال الأيام الأولى من اجتماعات ستوكهولم ليصطدم بنفس الرفض و يجد في النهاية أنه لا مفر من الرضوخ للأمر الواقع و البحث عن مخرج ممكن يحفظ به سمعة الأمم المتحدة و يعفيها من ورطة المشاركة في الكارثة التي تحدق بسكان الحديدة.

 

 

* يتبع

 إتفاق الحديدة كنتيجة لانكسار الرمح الذهبي

أحدث العناوين

UNRWA: Over a million people have lost their homes in Gaza

The United Nations Relief and Works Agency (UNRWA) stated that after 201 days into the war, destruction is everywhere...

مقالات ذات صلة