إدوارد سعيد: خواطر حول أمريكا

اخترنا لك

إدوارد سعيد:(مفكر عربي):

لا أعرف فرداً عربياً أو مسلماً من الأمريكيين لا يشعر الآن بأنه ينتمي إلى معسكر العدو ، فوجودنا في الولايات المتحدة في هذه اللحظة يزودنا بتجربة خاصة غير مريحة من الاغتراب والعداء المنتشر والمتقصد بصورة هادئة وخاصة . وعلى الرغم من تلك التصريحات الرسمية والمرتبطة بسياق المناسبات التي تقول بأن الإسلام والمسلمين والعرب ليسوا أعداء للولايات المتحدة ، فإنّ كل القرائن المتعلقة بالوضع الراهن تشير في جدلها إلى العكس تماماً.

إنّ مئات من الشبان المسلمين قد ألقي القبض عليهم للتحقيق ، وفي حالات كثيرة جدا تم احتجازهم من قبل الشرطة أو الأف بي آي. و أي شخص يحمل اسما عربياً أو مسلماً يوقف جانبا باهتمام خاص أثناء التفتيش في أمن المطارات . وثمة العديد من التقارير التي تتشير إلى حالات تمييز عنصري ضد العرب ، وحتى الكلام بالعربية أو قراءة وثيقة عربية في العلن هو في الغالب ، مثار للفت انتباه بعدم الترحيب . وبطبيعة الحال فإن وسائل الإعلام قد اجتهدت في استضافة عدد من ” الخبراء ” و” المعلقين” حول الإرهاب ، والعرب ، والإسلام ، من أصحاب الخط الاختزالي والتنميطي والمبالغ في عدائه والذي يسيء تمثيل تاريخنا ومجتمعنا وثقافتنا إلى حد أن الإعلام نفسه غدا أكثر قليلا من سلاح في الحرب على الإرهاب في أفغانستان وفي أماكن أخرى ، تماما كما هي الحال اليوم في الهجمة الممنهجة لـ”إنهاء” العراق.

هنالك قوات أمريكية ذات وجود سابق في بلدان عديدة يقطنها قدر مهم من السكان المسلمين كالفلبين والصومال ، وهنالك التعزيز المستمر ضد العراق. ومن جانب آخر تستمر إسرائيل في تطويل عقابها الجماعي السادي ضد الشعب الفلسطيني ، الأمر الذي يبدو مصحوبا بقبول عام على نحو كبير في الولايات المتحدة.

وفي حين يبدو هذا الأمر صحيحا في بعض جوانبه ‘ إلا أنه مضلل تماما . أمريكا أكثر مما يقوله بوش ورامسفلد و آخرون عنها. لقد آل بي الأمر إلى كره ذلك المفهوم الذي يرى بأن عليّ أن أقبل صورة أمريكا بوصفها داخلة في “حرب عادلة” ضد شيء أحادي الجهة يوسم من قبل بوش ودعائييه بالإرهاب ، تلك الحرب التي وضعتنا إما في صف الشهود الصامتين أو في صف المهاجرين المدافعين الذين عليهم أن يكونوا ممتنين للسماح لهم بأن يكونوا مقيمين في الولايات المتحدة.

أما الوقائع التاريخية فإنها مختلفة : أمريكا جمهورية المهاجرين ، وكانت دائما واحدة . إنها أمة ذات قوانين لم تمرر من قبل الله بل من قبل مواطنيها .

وباستثناء السكان الأصليين من ذوي الأصول الهندية الذين أبيد أغلبهم ، فإنّ كل أولئك الذين يعيشون هنا كمواطنين أمريكيين قد قدموا ، في الأصل ، إلى السواحل كمهاجرين من أماكن أخرى ، حتى بوش و ورامسفلد.

كما أن الدستور لا ينص على مستويات مختلفة من التأمرك ، ولا يرضى أو يسخط عن صور من ” السلوك التأمرك ” بما في ذلك تلك الأمور المتعلقة بالتصريحات أو التوجهات : ” غير” أو ” ضد- الأمريكية “.

وخلاف ذلك مما يحدث يعني إنتاج ” طالبان أمريكي ” يريد تنظيم الكلام والسلوك بطريقة تذكر المرء ، على نحو مفزع ، بأولئك الحكام السابقين لأفغانستان .

وحتى و إن كان السيد بوش يصر على أهمية الدين في أمريكا ، فإنه غير مخوّل بفرض مثل تلك الرؤى على المواطنين ولا أن يتكلم باسم الجميع عندما يزجي بياناته في الصين وفي بقاع أخرى عن الله و أمريكا ونفسه . إنّ الدستور يفرق ، بصريح العبارة ، بين الكنيسة والدولة.

وهنالك ما هو أسوأ. فبتمرير قانون ” السلوك الوطني ” في نوفمبر الماضي يكون السيد بوش وكنجرسه المطيع قد قمعوا أو أبطلوا أو اختزلوا مقاطع من التعديلات الأولى والرابعة والخامسة والثامنة من الدستور لتؤسس إجراءات تشريعية لا تعطي الأفراد حقاً في دفاع حقيقي أو محاكمة عادلة ؛ بل تسمح بوجود المباحث السرية والتجسس ، والاحتجاز بلا حدود ،كما تجيز المعاملة التي يتعرض لها المساجين في جوانتنمو ، وتجيز للجناح التنفيذي في الولايات المتحدة اختطاف الأسرى ، واحتجازهم إلى أمد غير معلوم ، والتقرير من طرف واحد ما إذا كانوا أسرى حرب أم لا ، وما إذا كانت اتفاقية جينيف تنطبق عليهم أم لا . مع أن تلك أمور لا يمكن البت فيها من قبل دول مفردة.

وكما قال دينيس كوسنيتش عضو الكونجرس ( ديمقراطي ، من أوهايو) في خطبته العصماء في 17 فبراير ، بأن الرئيس ورجاله لم يخولوا بإعلان الحرب – ( عمليات تثبيت الحرية )- ضد العالم بلا حدود وبدون أسباب ، ولم يخولوا ، كذلك ، برفع الميزانية العسكرية إلى أكثر من أربعمائة بليون دولارا في السنة ،ولا هم مخولون بإبطال قانون الحقوق.

و أضاف ، أيضاً ، في أول تصريح من هذا النوع يدليه مسئول مرموق ومنتخب من قبل شريحة واسعة- ” نحن لم نسأل : هل دم الأبرياء الذي أريق في 11 سبتمبر قد طهر بدم القرويين الأبرياء في أفغانستان ؟! “.

و أنا أزكي بقوة نشر خطبة كوسنيتش – تلك الخطبة المتفقة مع المبادئ والقيم العليا التي نحملها في عقولنا –  كاملة باللغة العربية حتى تعلم شعوبنا في ذلك الجزء من العالم بأن أمريكا ليست صوتا واحدا يعبر من خلاله جورج بوش وديك تشيني وحسب ؛ بل إنها تضم أصواتا عديدة واتجاهات رأي مختلفة تحاول الحكومة أن تسكتها أو أن تجعلها غير ذات صلة.

إنّ مشكلة العالم اليوم تكمن في كيفية تعامله مع قوة الولايات المتحدة الأمريكية غير الموازاة وغير المسبوقة ، والتي أضحت لا تخفي عدم حاجتها إلى التنسيق مع الآخرين وطلب موافقتهم إذعاناً لما تؤمن به ثلة صغيرة من الرجال والنساء المتحلقين حول بوش من كون ذلك في مصلحة أمريكا. وبما أن الشرق الأوسط معني ، فإنه منذ 11 سبتمبر أصبحت السياسة الأمريكية –في غالبها – تتأسرل ( تصبح إسرائيلية ) ، وعلى الواقع استغل أريل شارون ومساعدوه ، بصورة سافرة ، التركيز الأحادي من قبل جورج بوش على ” الإرهاب ” واستخدموا ذلك كغطاء لسياساتهم الفاشلة تجاه الشعب الفلسطيني.

والنقطة التي نثيرها هنا هي أن إسرائيل ليست الولايات المتحدة والولايات المتحدة – ويا للرحمة – ليست إسرائيل ، فعلى الرغم من أن إسرائيل تطلب دعم بوش في هذه اللحظة فإن إسرائيل البلد الصغير، والتي تستمر في البقاء كدولة تمركز اثني في وسط بحر عربي – إسلامي ، لا تعتمد ، فقط ، بصورة ذرائعية إن لم يكن اعتمادا مطلقا على الولايات المتحدة ، ولكن ، أكثر من ذلك ، لا بد أن تعتمد على التكيف مع محيطها . وليس العكس.

وهذا ، من وجهة نظري ، ما جعل سياسة إسرائيل في الآونة الآخيرة تبدو لعدد معتبر من الإسرائيليين سياسة انتحارية . وهذا ما جعل الكثرة الكاثرة من الإسرائيليين ينحون باتجاه الوضع الاحتياطي بدلا عن الخدمة في جيش الاحتلال تعبيرا عن نهجهم الرافض. وهذا هو أفضل ما انبثق عن الانتفاضة . وهو عينه ما يبرهن على أن الشجاعة الفلسطينية والتفاني في مقاومة الاحتلال قد آتيا ثمارهما أخيرا.

والذي لم يتغير ،رغم ذلك، هو الموقف الأمريكي الذي يصّعد أكثر فأكثر نحو فضاء غيبي (ميتافيزيقي) حيث يقدم بوش نفسه وأتباعه ( في الحملة العسكرية وعمليات تثبيت الحرية ) بتقوى ، وطهارة ، وخير، وقدرية لا مفر منها . أما أعداؤهم الخارجيون فيُقدَّمون بصورة مساوية للشر.

و أي إنسان قرأ الصحف العالمية في الأسابيع القليلة الماضية فإنه سيتحقق بأن الناس خارج الولايات المتحدة في حالة عمى وذعر من ضبابية السياسة الأمريكية التي تدعي لنفسها الحق في أن تتخيل وتخلق لها أعداء على النطاق العالمي ثم تحكم عليهم بالحرب دون التفات إلى دقة تعريف ، أو تحديد هدف ، أو وثوق من غاية ، أو – وهو الأدهى – شرعية لذلك التصرف. ماذا تعني عبارة أن نهزم ” الإرهاب الشرير” في عالم مثل عالمنا اليوم ؟!

إنّ ذلك لا يعني أن نمحو كل من يعارض الولايات المتحدة ،ولا يعني أن ندخل في مهمة مطلقة بصورة غريبة غير محددة المعالم ، ولا يعني ، كذلك ، أن نغير العالم ليتواءم مع الولايات المتحدة وأن نضع من نعتقد أنهم ” أناس أخيار” بدلا عن المخلوقات الشريرة كصدام حسين.

إن هذه السهولة البحتة في كل ذلك تبدو جاذبة لبيروقراطيي واشنطون الذين يعملون في حقل نظري بحت ، أو الذين – بحكم جلوسهم خلف الطاولات في البنتاجون – يرون العالم هدفا يقع على مسافة من القوة الحقيقية والافتراضية غير المعارَضة للولايات المتحدة.

فإذا كنت تعيش على بعد عشرة آلاف ميل من أية دولة تعرف بأنها شريرة وكان لديك عدد وافر من الطائرات الحربية وحاملات مضاد الطيران ، و أعداد هائلة من الغواصات بالإضافة إلى مليون ونصف من البشر المسلحين وكلهم يريدون خدمة بلدهم بصورة مثالية ضد من يصفه بوش وكندليزارايس بالشر – إذا كان ذلك كذلك ، فإن الفرص تشير بأنك ستستخدم كل تلك القوة في وقت ما ومكان ما . هذا ، وخصوصا أن الإدارة مستمرة في طلب ( ومن ثم الحصول على ) بلايين الدولارات التي تضاف إلى ميزانية الدفاع التي قد تم ابتلاعها .

ومن وجهة نطري فإن أعظم شيء يصدم ، فوق ذلك ، هو أن المثقفين والمعلقين البارزين – باستثناء القلة منهم – في هذه البلد يتسامحون مع برنامج بوش ؛ يتسامحون وفي حالات فاضحة يذهبون أبعد من ذلك نحو مغالطة الذات – الطاهرة  ونحو الموقف اللاناقد والمداهن للذات ، وكذلك نحو المحاجات الخادعة.

وما لن يقبلوه هو أن العالم الذي نعيش فيه، العالم التاريخي للأمم والناس ، يحرك ويفهم بالسياسة لا بالمطلقات العامة والكلية مثل الخير والشر اعتبارا أن امريكا دائما في جانب الخير و أعداؤها في جانب الشر.

عندما وعظ توماس فردمان العرب ،بصورة مضجرة ،بأن عليهم أن يتوفروا على نقد أكبر للذات ، كان الغائب في كل ما قاله هو النغمة الخفيفة من ( نقد الذات!) . وهو يعتقد بصورة ما بأن فظاعة أحداث 11 سبتمبر قد أباحت له أن يعظ الآخرين ، وكأن الولايات المتحدة هي الوحيدة التي تألمت لتلك الخسارة المريعة ، وكأن الأرواح التي أزهقت في أماكن أخرى من العالم لا تستحق أن يناح عليها و أن تستخلص من فقدانها العبر الأخلاقية.

ويلاحظ المرء نفس التناقضات والعمى عندما يركز المثقفون الإسرائيليون على تراجيدياتهم غير آبهين بمساواتها بالمعاناة العظيمة لشعب مسلوب لا دولة له ولا سلاح ولا قوة جوية ولا قيادة حقيقية. إنه شعب فلسطين الذي تستمر معاناته على يد الإسرائيليين دقيقة إثر دقيقة وساعة إثر ساعة.

هذا النوع من العمى الأخلاقي وهذا العجز عن التقييم والوزن بالدليل المقارن بين الآثم ومن أرتُكب الإثم ضده ( و أنا استخدم هنا اللغة الأخلاقية التي غالبا ما أتجنبها و أمقتها ) – هو نظام هذه الأيام . وما يجب على المثقف الناقد هو أن لا يسقط – وفي الحقيقة أن يقوم بحملة نشطة ضد السقوط – في المصيدة.

لا يكفي أن نقول برقة أن المعاناة الإنسانية متساوية ثم يقوم كل واحد منا بالعويل على مآسيه : إن من المهم جدا أن ننظر إلى ما يفعله الطرف القوي و أن نسائله عن ذلك لا أن نبرر له فعل ذلك.

إنّ صوت المثقف هو صوتٌ معارض وناقد للقوة العظمى . وهو في حاجة ، بصورة مطردة ،إلى ضمير رادع ومبين وإلى منظور مقارن ، حتى لا تكون الضحية – كما هو الحاصل غالباً- هي الملوم ، والقوة الحقيقية تشجع لتفعل ما تريد.

قبل أسبوع أصبت بحالة ذهول عندما سألني صديق أوروبي عن رأيي حول إعلانٍ لستين مثقفا أمريكياً كان قد نشر في كل الصحف الرئيسية في فرنسا و ألمانيا وايطاليا وغيرها من الصحف في القارة الأوروبية ، بيد أنه لم يظهر في أمريكا ماعدا ظهوره على الانترنت حيث لم يطلع عليه إلا قلة من الناس.

ذلك الإعلان الذي أخذ شكل خطبة رنانة عن الحرب الأمريكية ضد الشر والإرهاب من حيث هي حرب “عادلة” ومتفقة مع القيم الأمريكية ، كما يصفها أولئك النفر الذين عينوا أنفسهم مفسرين لبلدنا.

وقد تولى أمر الدعاية والدفع لهؤلاء شيءٌ يدعى معهد القيم الأمريكية ( وهو ممول جداً) وهدفه الرئيسي بث الأفكار للأسر أي القيام بدور ( الأبوة ) و ( الأمومة ) بل بدور (الله) ، كان ذلك الإعلان موقعا من قبل صمويل هنتنجتون وفرانسيس فوكوياما ودانيال باتريك موينيهان إلى جانب آخرين كثر . مع أن من كتبه بصورة أساسية هي الأكاديمية النسوية المحافظة جين بثك الشتين.

وقد كانت الأطروحة الأساسية عن الحرب ” العادلة “مصاغة ببنات أفكار البروفيسور ميكل وولزر المعدود اشتراكيا والمتحالف مع اللوبي الموالي لإسرائيل في هذه البلاد ،والذي يكمن دوره في تبرير أي شيء تفعله إسرائيل وذلك بلي عنقه نحو مبادئ يساريه مبهمة.

وبالتوقيع على هذا الإعلان يكون وولزر قد قطع أي ادعاء بالانتساب إلى اليسار ، و أصبح ، شأنه شأن شارون ، مع التفسير المهتريء الذي يرى في أمريكا محاربا تقيا ضد الإرهاب والشر ، وحتى يكون هذا التفسير واضحا أكثر ، فإن إسرائيل والولايات المتحدة بلدان متشابهان ولهما أهداف متشابهة.

لكن ، لا شيء فوق الحقيقة ، فإسرائيل ليست دولة لمواطنيها بل دولة كل الشعب اليهودي ، بينما الولايات المتحدة ، وبكل تأكيد ، هي ، فقط ، دولة مواطنيها .

والشجاعة لن تتوفر لوولزر أن يصرح بوضوح بأنه في دعمه لإسرائيل يدعم دولة بنيت على أساس مبادئ أثنية – دينية ، والتي ( حسب النفاق المعتاد ) سيرفضها إن كانت هنا في الولايات المتحدة في حال أعلنت كدولة بيضاء مسيحية.

وإذا تركنا تناقضات وولزر ونفاقه جانباً ،فإننا نجد الوثيقة موجهة إلى ( إخواننا المسلمين ) أولئك الذين يظن فيهم الفهم بأن حرب أمريكا ليست ضد الإسلام ولكن ضد أولئك الذين يعارضون أنواعاً من المبادئ التي من الصعب عدم الاتفاق عليها. فمن يستطيع أن يعارض مبدأ أن كل بني الإنسان سواسية ،و أن القتل باسم الله أمر سيء ، وبأن حرية الضمير أمر ذو امتياز ، و أن الموضوع الأساسي في المجتمع هو الإنسان ، و أن الدور الشرعي للدولة هو حماية ومساعدة وتهيئة الظروف من أجل رخاء الإنسان ؟ !

وفيما يلي ذلك ، تتحول أمريكا في تلك الوثيقة لتكون الطرف المظلوم ، مع اعتراف ببعض أخطاء في سياساتها بصورة موجزة ( بدون ذكر أي تفصيل محدد ) . وهي ، إلى ذلك ، توصف بالتزامها بمبادئ تنفرد بها الولايات المتحدة مثل أن كل الناس يملكون كرامة ومكانة أخلاقية متوارثة ، و أن الحقائق الأخلاقية الكونية موجودة ومتوفرة عند كل إنسان ، و أن المبادئ المدنية مهمة حيث يكون الخلاف ، و أن حرية الضمير والدين انعكاس للكرامة الأساسية للإنسان ، و أن ذلك معترف به عالمياً .

حسنٌ. فعلى الرغم من أن مؤلفي تلك الخطبة يقولون بأن الحال ، غالباً ، هي الانتهاك لتلك المبادئ العظيمة ،فإننا لا نجد محاولة جادة لبيان مكان وزمان وجود تلك الانتهاكات ( كما يفعلون دائماً ) أو أن هنالك انتهاكات أكثر خرقا من تلك التي ذكرت لاحقا ، أو أكثر وضوحا منها .

وما نجده في هامش الحاشية السفلية ،يورد فيه وولزر وزملاؤه قائمة بعدد الأمريكيين ( القتلة ) الذين قتلوا بأيدي المسلمين والعرب بما في ذلك مارنز بيروت سنة 1983م ، بالإضافة إلى مقاتلين عسكريين آخرين.

و إبراز هؤلاء في قائمة أمر ذو استحقاق لأنهم المدافعون العسكريون عن أمريكا ، أما الجرائم التي تحدث في جانب العرب والمسلمين – بما في ذلك مئات الآلاف الذين قتلوا بالسلاح الأمريكي بيد اسرائيل وبدعم من الولايات المتحدة ، أو مئات الآلاف الذين قتلتهم الولايات المتحدة بالحصار المستمر على الشعب البريء في العراق – لا تستحق أن تذكر أو أن توضع في الجدول. أي نوع من الكرامة تلك التي يتعرض بها الشعب الفلسطيني للإهانة من قبل إسرائيل بشراكة أمريكا وتعاونها؟َ!

و أين هي النبالة و أين هو الضمير الأخلاقي عندما لا يقال شيئا إزاء قتل الأطفال الفلسطينيين و إزاء حصار الملايين و إزاء ترك الملايين لاجئين بلا دولة؟!.

وفي السياق نفسه ، ماذا عن مقتل الملايين في فيتنام وكولومبيا وتركيا واندونيسيا بالدعم والرضى الأمريكي ؟!

وفي خاتمة المطاف ، لا يبدو هذا الإعلان المتضمن لمبادئ وشكاوى والذي وجهه مثقفون أمريكيون إلى إخوانهم المسلمين – لا يبدو تعبيرا عن ضمير صادق ولا نقدا فكريا ضد الاستخدام المتغطرس للقوة ؛ بل هو فتح لجبهة حرب باردة جديدة أعلنتها الولايات المتحدة بالتعاون الكامل – ويا لسخرية المفارقة – كما هو ظاهر ، مع أولئك الإسلاميين الذين يجادلون بأن ( حربنا ) هي مع الغرب والولايات المتحدة.

ولأنني أتحدث كشخص له دعوى الانتماء إلى أمريكا وإلى العرب ، فإنني أرى تلك البلاغيات القرصانية مرفوضة تماماً. وفي حين تدعي لنفسها مهمة شرح المبادئ وإعلان القيم ، إلا أنها في حقيقة الأمر تمارس العكس ، إنها تمارس عدم المعرفة ، إنها تعمي القراء بالبلاغيات الوطنية التي تشجع الجهل بالقفز من فوق السياسات الحقيقية ، والتاريخ الحقيقي ، والقضايا الأخلاقية الحقيقية.

وعلى الرغم من المتاجرة السوقية بـ” المبادئ والقيم ” ، فإن شيئا منها لا يلقى تنفيذا ، اللهم إلا التلويح بها بطريقة متبجحة ومصمَمَة لترويع القراء الأجانب لغرض التسليم.

إن لدي شعوراً بأن تلك الوثيقة لم تنشر هنا لسببين ، الأول : أن هذه الوثيقة ستُنتقد بشكل صارم من قبل القراء الأمريكيين وسيضحكون منها إلى حد السخرية. الثاني : أنها صممت كجزء من خطة للبنتاجون تم الإعلان عنها حديثا وتم تمويلها جيدا لتكون ضمن الدعاية للحرب ، وهدفها هو الاستهلاك الخارجي.

ومهما يكن من أمر ، فإن نشر ( ما هي القيم الأمريكية؟ ) ينبئ عن حقبة جديدة ومنحدرة في إنتاج الخطاب الفكري.

فعندما يضع مثقفو البلد الأقوى في تاريخ العالم أنفسهم ، بصفاقة ،في صف السلطة ، واضعين الحالة السلطوية بديلا عن التأمل الحثيث والرادع وعن التواصل الحقيقي والتفاهم -عندئذ نرجع إلى الوراء إلى تلك الأيام السيئة للحرب الفكرية ضد الشيوعية، والتي تحولت اليوم،كما نعرف ، إلى حالة تسوية وتعاون وتلفيق من قبل أولئك المفكرين والفنانين الذين لعبوا أدواراً مختلفة فيها.

هؤلاء المقاولون والمدعومون من قبل الحكومة ( لا سيما جهاز السي آي أيه الذي تمادى في دعم المجلات كمجلة ” انكاونتر” ومقاولة الأبحاث العلمية والرحلات والتآليف الموسيقية والمعارض التشكيلية )من المفكرين والفنانين العسكريين خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين الذين لا يتوفرون على الحس الناقد والمتأمل – جلبوا إلى المفهوم الكلي للصدق والشراكة الفكرية بعداً كارثياً جديداً.

وبرفقة ذلك الجهد ذهبت الحملة الداخلية بعيدا نحو خنق النقاش ، وتخويف النقاد ، وكبح التفكير.

إن ذلك بالنسبة لكثير من الأمريكيين مثلي وقائع مشينة في تاريخنا ، ويجب علينا أن نكون في الجهة المضادة والمقاومة لعودتها.

   هامش:

* نشرت هذه المقالة في عدد من الصحف العالمية في مارس 2003م ، وهي ، في تقديرنا ، تحوي أفكارا متجاوزة لآنيتها وتتميز بما تتضمنه من نقد حر ونظرة تقييمية عميقة للسياسة الأمريكية مع الإشارة الخاصة إلى العالم العربي والموقف المداهن لبعض المفكرين الأمريكيين من تلك السياسة. من هنا كان الإقدام على نشرها باللغة العربية في هذا الوقت المتأخر عن صدورها ، رغم أن هذه الترجمة قد ظلت حبيسة الأدراج منذ فترة طويلة لأسباب تتعلق بالنشر

 

الخبر اليمني/أقلام

أحدث العناوين

اعتصامات واسعة تجتاح الجامعات الأمريكية دعماً لغزّة

اعتقلت السلطات الأمريكية أكثر من 130 شخصًا ليلًا خلال احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في حرم جامعة نيويورك مع اكتساب التظاهرات...

مقالات ذات صلة